هذه الحياة الدنيا، ما هي إلا أيام وليل ودقائق تمضي متتابعة حاملة معها كل أقوالنا وأفعالنا، وإذا هي في النهاية سجل لنا أو علينا، وصحائف شاهدة بما قدَّمنا فخير لنا أن نسير على صراطه المستقيم، وأن يكون لنا من صالح الأعمال رصيد يضمن لنا لقاء ربنا وهو راض عنا غي
أنت هنا
قراءة كتاب التربية الروحية وتزكية النفوس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المبحث الأول
أكثروا ذكر هادم الملذات
كان رسول الله صص يذكّر أصحابه بالموت بقوله: ((أكثروا ذكر هادم اللذات))(4) ، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)) وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبي صص لما تغشَّاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: ((سبحان الله إن للموت لسكرات)) ،وفي رواية: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات)).
قال تبارك وتعال: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}[ق: 19]، أي جاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بالأمر الحق من أهوال الآخرة، وهذا الأمر ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع .
قال أبو الدرداء: ((ما من أحد آمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه)).
ولما حضرت سفيان الثوري الوفاة بكى، فقال له أحد معارفه: ((يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب؟))، فرفع شيئاً من الأرض وقال: ((والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ولكن أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت)) .
فإذا كان هذا خوف العلماء والعارفين من سوء الخاتمة مع رسوخ أقدامهم، فكيف لا يخاف ذلك الضعفاء.
فاعلم أخي المؤمن أَّنَّه من أراد طريق السلامة تزحزح عن أسباب الهلاك، على إن العلم بتقليب القلوب وتغيير الأحوال تقلقل قلوب الخائفين، وإذا عرفت معنى سوء الخاتمة فاحذر أسبابها، وأعد ما يصلح لها، وإياك والتسويف بالاستعداد فإن العمر قصير، وكل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك؛ لأنه لا يمكن أن تحفظ فيه روحك، والإنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه.
كفى بالموت واعظاً:
يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
أخي المؤمن! اعلم وتيقن أن الموت هو المصير الحتمي لكل حي طال أجله أم قصر {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26-27]، أي كل من على وجه الأرض من إنسان وحيوان هالك وسيموت،ويبقى ذات الله الواحد الأحد ذو العظمةوالكبرياء والإكرام، كقوله تعالى: {كل شئ هالك إلا وجهه} [القصص: 88]، قال ابن عباس رضي الله عنه: ((الوجه عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم))، وقال ابن كثير رحمه الله وهذا إخبار بأنَّ تعالى الدائم الباقي الحي القيوم فقد يغيّر الإنسان بقوَّته وصحَّته وبشبابه و حيوته، وهناك يأتي الأجل ولات حين مندم، فالموت زائر لا يدري متى يطرق بابه، وإنَّه لا يفرق بين الشباب والشيوخ، ولا بين الضعفاء و الأقوياء، فالكل في قبضته سواء، وليس من شرط أن يموت الإنسان على فراشه، فقد يموت في عارض لا يلفت نظراً، وإن كان المرء في عنفوان شبابه وصحته {أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء:78]، فالموت ما هو إلا انتقال من دار الدنيا الفانية إلى دار الآخرة الباقية، والمؤمن لا يفزع من الموت إذا ذكر، ولكنَّه يشفق ممَّا وراءه، يخاف ذنبهويرجو رحمة ربه، فهو لا يتمنَّى الموت لضر أصابه لأنَّه راضٍ بقدر الله، لا يختار لنفسه حياة و لا موتاً، بل أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، ومن سعادة المؤمن أن يجتمع له طول العمر وحسن العمل((خير الناس من طال عمره وحسن عمله))
ولنعتر أخي المؤمن بالموت فإنه خير واعظ، ولتميز بين حال المؤمن الذي تقبض روحه كما تنساب القطرة من في السقاء وبين الظالم الذي تنتزع روحه كما ينتزع الشوك من الصوف المبلول، فتصوَّر رهبة الموقف وشدته، وتذكر الموت وسكراته وأهواله، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النَّبي صص سُئل : أيُّ المؤمنين أكيس، قال: ((أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً له ألئك هم الأكياس)) .
وقال أحد العارفين: ((كلنا أيقن بالموت ما نرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة ومن نرى لها خائفاً، فعلام تفرحون؟! وما عسيتم تنتظرون؟! الموت! فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشر، فيا أخوتاه! سيروا إلى الله سيراً جميلاً)) .
فلا تشغلكم الدنيا وزخرفتها ولا عروضها وزينتها، فلا كثرة الأموال والأولاد تغني عن طاعة الله، وعن الاستعداد للآخرة،{ويحذركم الله نفسه} [أل عمران]، قال تبارك وتعالى: {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون *} [التكاثر: 1-3]، قال القرطبيفي تفسيره: شغلتكم المباهاة بكثرة المال والأولاد عن طاعة الله، حتى متم ودفنتم في المقابر ، وقال ابن كثير: شغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت، وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها،{كلّا سوف تعلمون}، قال ابن عباس رضي الله عنه: أي في الآخرة إذا حل بكم العذاب ، ثم لتسألن في الآخرة عن نعيم الدنيا من الطعام و الشراب والمركب والمفرش والصحة، استيقظوا وانظروا فقد ألهاكم التكاثر عن حفرة ضيقة، لا تكاثر فيها ولا تفاخر.قال تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} [الواقعة: 83- 85]، أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال، ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إلى الميِّت منكم ولكن لا تعلمون ذلك ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقيض روحه، قال الخازن فهلَّا ترون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعملوا أنَّ الأمر نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعملوا أنَّ الأمر إلى غيركم هو تبارك وتعالى.