رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟
قراءة كتاب الزيت المبارك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
![الزيت المبارك الزيت المبارك](https://files.ektab.com/php54/s3fs-public/styles/linked-image/public/book_cover/ot9f.jpg?itok=_WupBZY-)
الزيت المبارك
ثم يأخذها البكاء وتتساقط دموعها على الرغيف بين يديها، وهي تتذكر الأحداث المؤلمة التي تشعرك بأن الحياة ظلال وارفة وفيء جميل، ولكن إلى حين قريب، فما أسرع قدوم الليل وتجرع المصائب! التي تعيدك إلى الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن وعي العاقل بأننا ممتحنون مختبرون في هذه الحياة، والنتائج في يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين.
ثم جاء خبر موته مرة واحدة، ونزل علي كأنه السقف المنهار. كان اليوم هو الثلاثاء. آخر ثلاثاء من شهر خمسة سنة 1934. سكتة قلبية قطفته في ريعان شبابه -الله يرحمه-.
الدار صارت بعيني غير الدار وكأني غريبة عنها لا أعرفها، لأن الدار ليست الجدران والأثاث، الدار بسكانها، وسكانها راحوا.
البيت مغارة نائية ومأوىً للضباع. الحديقة قطعة من البرية القاسية التي تعوي فيها الرياح.
(الزرّيعة) ذاوية صفراء وكأنها لم تعانق الماء من سنين. جبل العويليا وحش ضارٍ يفغر فاه ليقوم بالتهامي.
أصحابه قالوا بأن (الكمبريسا) أكلت أحشاءه شيئاً فشيئاً حتى ذوى وانتهى.
ثم بعد أسبوع على انتهاء العزاء، حضرتَ إلى الدنيا. فرحتنا بقدومك شوبها الحزن على الراحلين، وافتقاد الأب الجاني:
رجيتك لا تخليني
قليبك ما يعادي
غيرك ما يواتيني
يرحمك ربي ويرعاك
- «يا أمي يكفي بكاءً، منذ ستة عشر عاماً وأنت تبكينه. الميت يتأذى من نواح أهله، وأنت لست أرحم من الله به»
فترد وهي تمسح دموعها وتلتقط أنفاسها:
- «صحيح يا وليدي. أنا لا أنوح عليه، ولكن يعزّ علي الرفق، والنبي يعقوب عليه الصلاة والسلام قال: يا أسفى على يوسف»
ثم تحرك رأسها مغمغمة:
دمعي جرى من فوق خذي حوادير
بالليل أساهر عاليات النجوم
ثم تلف الخبزات بقماشتها البيضاء الباهتة، وتقول وهي تعدل قامتها براحة يدها مصدرة تنهيدة طويلة:
- «تلحقني يا حاتم، لتتناول الفطور»
فيرد عليها وهو يقلب الصاج بسلك معقوف:
- «سأطفئ النار ثم ألحق بك»
وفعلا يقوم بعصاً طويلة بقلب الرماد وهو يسعل ويحرك رأسه لتجنب الدخان الصاعد، ثم يفرد الجمر ليتسنى له الانطفاء على مهل.
يرفع جسمه ويقوم ماشياً متفقدا علب الزريعة المتصافة في طابور طويل طويل، وهي تحمل صوراً ورسومات وأسماء متنافرة بحافات مازالت فيها بروزات حادة تجرح غير المنتبه، أعلاها جميل بهيج، يحمل أحلى الألوان وأعذب المناظر وأشذى الروائح من الريحان والنرجس وفم السمكة والسجادة والقرنفل والنعناع والميرمية وأصابع الغولة... في أسماء كثيرة لا تنتهي.
ولا يكاد يقف قبالتها حتى تصل إلى أنفه روائحها من تجاويف الذاكرة قبل أن يشمها بأنفه، فيغمض عينيه ويسرح بعيداً إلى ديار لا أحزان فيها، إلى بلاد الأفراح والسعادة حيث بساط العشب اليانع غير المتناهي تحت باقات النور.
السرائر الذهبية المتقابلة في ظلال الأشجار الوارفة المثمرة.
الصحاب ذوو الوجوه المنعمة التي فيها نضرة النعيم المتلألئة حيث البسمات الأخاذة والضحكات البريئة.
الولدان المخلدون الذين تستملح خدمتهم في حركتهم الدائبة بآنية الذهب والفضة ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ [الإنسان:19].
وتتشكل أمامه لآلئ كثيرة متوهجة متناثرة: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان:20].
الحور العين اللواتي يسرن أسراباً في خفر وحياء بتقاسيم فاتنة وبقامات ممشوقة في فساتين حريرية مقصبة، وهن يشتملن على مباسم أحلى من الضياء.
الملائك يحلقون في المكان المقدس في أجواء من النور لا يمكن وصفها، ويباركون الجمع بأرواحهم اللطيفة.
الهواء المنعش الرطب المحمل بعبق المسك والذي يحرك أشجار الموسيقى بأعذب الألحان مع غناء الخالدات الساحر بما لم تسمعه أذن قط، فتترك الجمع الصباح فينشوة وسرور.
الخلود غير المتناهي مع السعادة والحبور الدائم وغياب فكرة الموت التي تنقض كل لذة.
رضى الرحمن الذي يطغى على كل شيء، ويتركك تطير في كل مكان مغفوراً لك إلى أبد الآبدين (اذهبوا مرضياً عنكم فلا أغضب عليكم أبداً)
ويأتيه صوت أمه من الداخل:
- «تأخرت. الفطور جاهز»