رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟
قراءة كتاب الزيت المبارك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الزيت المبارك
يسرقنا الوقت فنجلس الأوقات المديدة ساهمين، ونحن ننظر إلى هذه المدينة المتحركة الملونة والضوضاء التي لا تنتهي.
يتناهى إلى أسماعنا قرع الطبول والدق على الطبلات والجر على الربابة والشتائم الكثيرة على (جساس).
يسأل حاتم أمه بشوق:
- «من جساس هذا الذي يشتمونه كثيراً؟»
تجيبه بهدوء وروية:
- «يقولون بأن جساس كان سيدهم الذي ينتسبون إليه، وأنه سبب مشاكلهم وتنقلهم الدائم بعد أن قتل (كليباً ). فحكم عليهم (الزير سالم أبو ليلى المهلهل) بالترحال المستمر ما طلعت شمس. ولولا فعلة جساس لكانوا مرتاحين مستقرين كبقية خلق الله».
يلح على أمه بالأسئلة:
- «الزير سالم أبو ليلى المهلهل ألم يمت من وقت بعيد؟»
ترد ضاحكة:
- «من زمان بعيد جداً، وعظامه الآن مكاحل»
- «إذن لماذا لا يستقرون وقد مات؟»
تجيبه وهي تبحث عن إجابة مقنعة:
- «تعودوا على الرحيل. يعافون المكان إذا خالطوه أسبوعاً. الرحيل والتحميل والتنزيل دم أحمر يتنقل في شرايينهم. الاستقرار صار عندهم مرضاً »
بعد (القعدة) ننزل إلى (الاستراحة) حيث نلقي ظهورنا على السهل الأخضر الذي تفترشه أعشاب النجيل افتراشاً كاملاً، ونتابع بأبصارنا جبال الغيوم البيضاء وهي تتبطح على البساط الأزرق الجميل وتشكل أمام عيوننا مناظر غريبة.
ثم نعود إلى بيوتنا، وأفواهنا تتحرك وتحاول التغلب على الجوع بمضغ الأعشاب البرية التي نلتقطها في طريقنا كرغيف الراعي والدريهمة والسعيسعة وقرن الفار وإبرة العجوز...
في أحد الأيام ونحن في طريقنا إلى القعدة قلبنا حجراً كبيراً، لنتابع بأعيننا أنواع المخلوقات الصغيرة الكثيرة الزاحفة التي تفر إلى كل ناحية هرباً من ضوء الشمس أو خوفاً من أيدينا العابثة.
نتأمل سيقان الأعشاب المصفرة والبيضاء التي نمت في العتمة وهي تلتف إلى الأعلى عند أطراف الحجر باحثة عن الشمس والضياء، إلا أننا في هذه المرة رأينا ما لم يكن في الحسبان.
يسألها حاتم باهتمام:
- «ماذا رأيتم يا أمي؟»
- «رأينا تحت الحجر شيئاً عجيباً لن أنساه أبداً. رأينا قماشة صفراء بلون حبات الليمون وقد ربض عليها صرصور أسود.
استغربنا لون القماشة ونظافتها وصفارها الفاقع تحت الحجر، وجلوس الصرصور بسكون في وسطها.
مدت إحدانا عوداً طويلاً لتزحزح الصرصور وتأخذ القماشة، إلا أننا صدمنا كثيراً وفررنا مرعوبين عندما تحركت القماشة الصفراء، وإذا هي أفعى مخيفة صفراء اللون والصرصور هو رأسها الأسود اللامع، فتراجعنا خائفين صارخين وقلوبنا تنبض وتضطرب بشدة.
فسمع صراخنا طفل قريب من أبناء القرية العجيبة نافش الشعر قذر الثياب حافي القدمين، تتحرك حول أنفه ذبابات عديدة يجتهد في طردها بكلتا يديه دون فائدة.
أخذ هذا الولد الصغير يبحث عن الأفعى فرحاً. وما هي إلا لحظات حتى رأيناها تتراقص بين يديه، وهو واقف يقلبها بعودينقصيرين، والأفعى تلتف تبعاً لإشارته، وكأنها كرة من الصوف. فسألناه مستغربين:
- «أنت كيف تمسكها بيديك؟ ألا تخاف من لسعتها وسمها؟»
فيضحك وهو يحك أنفه والأفعى تتقلب على أعواده:
- «أنا فقير محوي»
فنستغرب كلماته ونحن ننظر في وجوه بعضنا بعضاً:
- «ماذا تعني بفقير محوي؟»
فيرد بنفس عبارته البلهاء وهو يهش الذباب:
- «فقير محوي يعني لا أنقرص»
ثم يركض نحو الأسفل مسرعاً حافياً وهي بين يديه، ولا يأبه للأشواك والحجارة والحفر المتناثرة، ونحن نتابعه بنظراتنا المدهوشة، وكأنه زائر مجهول من كوكب بعيد، أو مغامر غريب قادم من وراء البحار، أو فارس صنديد من قصة سيف بن ذي يزن، ولا نتركه حتى يغيب بين الألوان الزاهية والحركة التي لا تنقطع بين الخيام.
في يوم من الأيام ونحن نصعد إلى القعدة، نفاجأ باختفاءالمدينة كاملة.
نفتقد الخيام والألوان والصغار والنساء والرجال والدواب والحركة والضوضاء.
كأنما الأرض انشقت عن فتحة كبيرة جداً ثم ابتلعتهم جميعاً وأغلقت فمها إلى الأبد.
ننزل راكضين محزونين باتجاه السهل الأحمر فلا نجد إلا الحجارة المصفوفة على شكل مربعات واسعة.
الحجارة التي بقيت شاهدة على الخيام التي نصبت في هذا المكان في يوم مشمس.
رماد مبعثر وبقايا من (القرامي) والأغصان المتفحمة من أثر النيران التي كانت تتوهج في الأماسي وتبث في الأجساد الدفء والحياة.
رياح خفيفة تتحرك في السهل بلا اتجاه وتطلق لحناً حزيناً، وكأنها شاعر جاهلي يتنقل بين الأطلال يتلمس آثار المحبوبة ومواضع أقدامها.
نعدو بين الحجارة ونحن في حزن شديد على الراحلين الذين ثوروا المكان ثم أخمدوه، وكأننا في مشهد سحري في أحد عوالم الجن الذين يظهرون فجأة في منطقة ما بجمالهم وخيلهم وأمتعتهم ونسائهم ورجالهم وحركتهم وضوضائهم وحدائهم ثم يختفون في لحظات.
يختفون وكأن ظهورهم ناجم عن نسيانهم الاختفاء، أو ليثبتوا لنا أنهم أحياء وأنهم جزء من الحقيقة.