قراءة كتاب الزيت المبارك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزيت المبارك

الزيت المبارك

رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

فيتحرك باتجاه الغرفة متباطئا محاولا فتح عينيه، وهو يتمنى لو بقي إلى الأبد في أجواء الروح والريحان وجنة النعيم.
يغمس خبزته بالسمن البلدي وينفضها قليلاً حتى لا تتساقط قطراتها على ملابسه، ويمتص الشاي الساخن من بين وريقات الميرمية الخضراء على أثر كل لقمة.
يتأمل أمه الحبيبة. الوجه الذي لم تغب عنه حتى هذه اللحظة آثار الجمال الماضي الذي لم تستطع هزيمته الأحزان المتلاحقة. العينان العسليتان اللتان رعتاه دائما بالنظرات الحنونة. اليدان المخلصتان اللتان مهدتا له الطريق، ودفعتا عنه المعتدين، وجنبتاه العثرات والحفر.
يتتبع تفاصيل الوشم الذي انتشر على وجهها، ولم يترك موضعا إلا ورسم فيه عرقا أو وردة أو خطاً، حتى طرف أرنبة أنفها اللطيف التي ما زالت تحمل نقطةً خضراء بالقرب من الثقب الجانبي، والذي كان يحمل في الزمن الماضي حلقةً ذهبيةً صغيرةً كانت من مقتضيات الجمال التي لا يجوز الخروج عنها.
يتذكر قولها وهو ينكر عليها في لطف بالغ:
- «الوشم حرام يا أمي، لماذا عملتموه؟»
فتجيبه في نظرة ساهمة وكأنها تشاهد أحداث الماضي حاضرةً غضةً تتحرك أمام عينيها، فتغيب فيها بعمق وهي تتمنى أن تبقى محبوسةً فيها، وقد ارتسمت على فمها ابتسامة جميلة أظهرت سنها الذهبي اللامع الذي ما زال جديدا وكأنه ابن البارحة:
- «كنت طفلة صغيرة ألعب حول البيوت مع صويحباتي ولا أشعر بالزمن، وأتعلق بثوب أمي كلما رأيت رجلاً غريباً.
كنت جاهلة بريئة لا أعرف ما ينتظر البنت من زواج وخلفة وموت.
كان العالم في نظري مقسوم إلى ثلاثة أقسام آباء وأمهات وأطفالهم، وكل واحد يلتزم بالدور الذي خلق لأجله، فالأب يبقى أباً والأم تبقى أماً والطفلة تبقى طفلة.
حتى جاء ذلك اليوم الذي صرخ فيه رجل كبير:
- «لقد حضروا، وهاهم يبنون بيوتهم بالقرب من هنا»
وما هي إلا لحظات حتى كنا هناك. الخيام تنتشر على مد البصر. الحمير والدواب تتدافع وتحوم في كل مكان، حاملة على ظهرها البسط والفراش والأعواد والخيام والغرابيل والسكاكين والشباري والمغارف. وكأنها بحركتها الكثيرة تطالب بتخفيف حملهاوإطلاق سراحها.
بعض الحمير تتحرك مسرعة وهي تحمل على جناحيها (طناجر) في قاعها طعام مطبوخ جاهز!
بين البيوت تتراكض طفلات حافيات بشعور منفوشة وسخة ولهن صراخ وصخب، ويسير رجال بشوارب حمراء كبيرة مدببة ذات شعر مستقيم، ونساء طويلات يجالسن الرجال، ويقهقهن بصوت عال، ويتحدثن بلهجات غريبة، وهن يتحركن بسرعة بملابسهن الفضفاضة ذوات الألوان الفاقعة الغريبة الحمراء والصفراء والخضراء وبعض الألبسة التي تحمل جميع الألوان.
حاولت أن أهرب وأنا أسمع صراخ الطفلة التي تثبتها النساء الشديدات بأيديهن، وتعبث إحداهن بإبرة في وجهها والدم يسيل، فأركض بأقصى سرعتي متعثرة بحبال الخيام الممدودة في كل مكان، ولكن أمي لا تتركني بل تلاحقني راكضة مسرعة، فأسقط على وجهي على التراب الأحمر الذي ما زالت رائحته في أنفي، فتمسح دموعي، وتضمني إلى صدرها، فأدفن وجهي في مدرقتها المخملية السوداء وأنا أبكي، وهي تقول:
- «يا حبيبتي. نريد أن نجملك ونزينك في وجهك بالزخارف والخطوط التي تجعلك جميلة حلوة في عيون الآخرين. وكل صاحباتك هذا اليوم سيتم وشمهن وأنت لست أقل منهن»
وفعلا وبين أيدي النساء ذوات الألوان الزاهية والتي تفوح منهن روائح العرق الكريهة، وتحت صرخات الألم المختلطة بقهقهاتهن، ومن بين قطرات الدم المتساقطة من الإبر يتم حشو الثقوب باللون الأخضر، ورسم الزخارف المتشابكة، وثقب طرف الأنف بدقة متناهية وإتقان كبير.
ثم أسير بجانب أمي وأبي عائدة، وأنا أنظر إلى الرجل الذي يفتح فمه بشكل وحشي ليتم إصلاح أسنانه وهو يتململ من الألم، فأتذكر آلام الوشم، وأحس بجفاف حلقي..
أصل إلى البيت وأذني تتابع الأغنية الغجرية بكلماتها الغريبة:
يا غليم يا غلام
لا ترح درب الشمال
يوخذك التركملي
يعمل فيك كان مان
يعمل من جلدك رباب
للشيوخه والشباب
فألتصق بأمي خائفة من درب الشمال المنحرف الذي يقودك إلى قبضات التركملي القوية بشواربه الضخمة الحادة، وهو يسحب شبرية طويلة من شباريهم الكثيرة التي يصنعونها ويزخرفونها.
ثم بسرعة كبيرة وباحتراف متقن يقوم بذبحي ونفخ جلدي بشفاهه الغليظة، ثم سلخه وتنشيفه، ثم تشكيله على شكل غربال وطبلة وربابة يتراقص على نغماتها شيوخهم وشبابهم ونساؤهم فيإباحية مطلقة.
أعود يوميا مع صاحباتي حيث نصعد التلة الشمالية إلى (القعدة)فوق الصخرة.
الصخرة كبيرة بحجم البيت فنصعد على ظهرها من جهتها التي تحمل مواقع للأقدام وكأنها درج منحوت.
على ظهر الصخرة نتسابق في الجلوس واحتلال الأمكنة، فنجد مكانا لكل واحدة منا إلا أن بعض الأماكن يكون التسابق عليها شديداً حيث نجدها مكورة مريحة ولها متكآت، وبعضها الآخر يكون من نصيب المتأخرات حيث الجلسة المائلة، أو الأطرافالمدببة المؤذية.

الصفحات