هذا الكتاب يثير المسألة من زوايا علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الثقافية السياسية، ويطمح إلى تصحيح العلاقة بين الجماعات المكوّنة للبنان والمشرق العربي، حتى يتاح للجميع الاندماج الوطني والعربي في أنظمة أكثر تحرّراً وديمقراطية وعدالة.
أنت هنا
قراءة كتاب نقد التضليل العقلي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
II· إستراتيجيّةُ وجودٍ وبقاء :(جدليّاتُ الأرضِ والعلم والعقيدة)
في الاعتقاد الشيعي أن التشيّع ولد مرّتين : ولادة إسلاميّة (نبويّة) في مكّة والمدينة، كانت كامنةً في عهد النبيّ، وكان الوصيُّ عليٌٌّ رمزها الديني والعلمي؛ ثم صارت ظاهرةً بعد النبيّ، وكانت (خلافة) عليّ المنشودة إطارها المرجعي والاستقطابي داخل الجماعات الإسلاميّة الأولى؛ وولادة سياسية (صراعية/مأساوية) في الكوفة وكربلاء (العراق)، قوامُها اغتيال الإمام عليّ بعد حروب على السلطة (حرب الجمل - حرب النهروين مع الخوارج - حرب صفّين مع معاوية)، والاغتيال الجماعي لآل الحسين بن علي في الطفّ (كربلاء)· وبقدر ماكان القتلُ يعني الإلغاء الجسدي للآخر، وإخراجه من المكان الأرضي وزمانه الحيوي إلى باطن الأرض، كان يعني أيضاً استبعاد الآخر ونفيه وجعل أرضه مواتاً مثله· ومن المعروف أنّ صراع الشيعة على المكان بدأ في المدينة المنوّرة، وتمثّل في الذاكرة الشيعيّة في مأساة أبي ذر الغفاري، الرفيق الإماميّ، الذي عاش غربة المكان في زمان الإمام الأوّل، فنفاه الخليفةُ عثمانُ بن عفّان إلى بلاد الشام (سورية ولبنان) حيث يعتقدُ الشيعة أنّه وطَّنَ مذهبهم بين السكّان الذين احتكّ بهم؛ ثم نفاه إلى الصحراء (الربذة) حيث قضى غريباً وشهيداً، وشاهداً على لا مكان الشيعة فوق الأرض أو تحت الشمس· من هاتين الولادتين جاء التعاقب عند الشيعة لوسيلتي الدّعوة السرية أو التقّية، والدعوة العلنية أو الثورة· وبين التقيّة والثورة، سعى الشيعة الأوائل على ندرتهم أو قلّتهم، إلى الانتقال من كون الإنسان هو إمكان الزّمان، إلى جعله إمكان المكان؛ وحصَّنوا مسعاهم برمزية دينية كثيفة : رمزية الإمام القتيل، المظلوم، الشهيد المقدَّس في مكانه (مزاره)، ورمزيّة الإمام الحيّ المتواصل، الظاهر والباطن (انتظار الخفيّ: الإمام المهدي)· وعلى هذه الرمزية المقدّسة، أسّس الشيعةُ نظامهم العقيدي وبنوا فلسفةً دينية داخل الإسلام (نهج البلاغة للإمام علي؛ أدعية الإمام زين العابدين، السجّاد، شاهد كربلاء؛ هفْت أو جفْر الإمام جعفر الصادق؛ بحار الأنوار، أي أحاديث الأئمة الاثني عشر، التي جمعها أجيال من الرّواة، وجرى نشرها في بيروت، في 110 مجلدات، للمجلسي··· الخ)· وفوق ذلك، دافع الشيعة عن مكانهم (أو مجال عليّ، كما سمّاه هشام جعيط في كتاب الفتنة، مقابل مجال معاوية، أو السلطة) وقاتلوا طويلاً للحفاظ عليه في وجه كل قوّة محلية أو خارجية؛ فاعتبروا أنّ مكانتهم في المجتمع تتوقفُ على مكانهم أو أرضهم؛ وهكذا نشأت لديهم استراتيجية وجود وبقاء، غير معلنة دائماً؛ ولكنّها استراتيجيّة قائمة سوسيولوجياً على ثلاثة ثوابت: ثابت الأرض، ثابت العلم، ثابت العقيدة· ومن البداهة القول إنَّ التشيّع المولود عربياً وإسلامياً، في مجال جغرافيّ محصور، ومحاصَر، قد بحَثَ لنفسه عن أماكن أخرى في أرض الله الواسعة (غرباً وشرقاً: الدولة الفاطمية العربية في المغرب ومصر؛ والدولة الصفوية الفارسيّة في إيران، القائمة حتى الآن، وفي إطار جمهوري)؛ ولكنَّه لم يتمكّن في المجال العربي من التأسس في مكانٍ واحدٍ، جامع· وكذلك حال التشيّع في العالم الإسلامي (باستثناء إيران، حيث لا تخفى المركزية الشيعيّة الغالبة)· فهل هذا الواقع الشيعي الراهن يسمح بالافتراض أنَّ الشتات الشيعي على مدى الخارطة الدينية العربية، لا حظَّ له في تكوين مجتمع شيعي عربي، يمكن تتويجه بدولة، كما هو حال المذاهب الإسلامية السنية العربية؟ لا شكّ أنَّ التوزع الإسلامي الشيعي - (بمعناه الواسع، معنى مجال عليّ، الشامل للإثني عشرية والزيدية والعلوية والدرزية، الخ) - على واجهاتِ المشرق العربي يجعل الشيعة عُرضةً، وضحيَّةً دائمةً للمواجهات الداخلية والخارجية معاً، وأنَّ التكاثر السكاني الشيعي لن يحول، قريباً، دون بقائهم أقلية(مذهبيّة) فوق خارطة المذاهب الإسلامية العربية، ودون بقائهم أقلية (سياسية) في حال الانتقال العربي من الوراثة الاستبدادية إلى التعاقب الديمقراطي على السلطة· وهذا - ربّما - ما جعل شيعة العرب - وهم عرب أقحاح بمعظمهم - يتماهون بالعروبة كهويّة، دون التنازل عن هوية وجودهم، ضمانة لاستمرار بقائهم في أرضهم· إن أرض الله الواسعة ضاقَتْ عليهم مراراً في التاريخ المأسوي لعقيدتهم، وأطبقت عليهم في النصف الثاني من القرن العشرين (محنة جنوب لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي؛ ومحنة جنوب العراق وشيعة العراق في خلال حرْبي الخليج الأولى والثانية، مع إيران، ومع أميركا وحلفائها)· ولئن كان شيعةُ لبنان قد حرّروا أرضهم الوطنية بالمقاومة، المدعومة علناً من سورية الأسديّة، ومن إيران الخمينيّة، فإنّ صراع البقاء الشيعي على الأرض والسلطة ما زال قائماً، خصوصاً بعد ما صار الشيعة الطائفة الأولى في لبنان (وهم كذلك في العراق والبحرين)· وإذا كان شيعة لبنان والكويت والعراق يشاركون في السلطة بأشكال متفاوتة؛ فإنَّ عروبة شيعة سورية العلويين (الذين أفتى الإمام موسى الصدر، سنة 1972، بأنهم شيعة إثنا عشريون) مكّنتهم من قيادة الحكم في دمشق، منذ 1970 وحتى اليوم؛ فيما شيعةُ دبي والبحرين والسعودية واليمن يشكونَ من اغترابهم أو نفيهم السياسي في بلادهم· وكذلك حال الأقلية الشيعية في فلسطين!
هذه الصورة الواجهية لشيعة المشرق لا تكفي لفهم صورتهم السوسيولوجية· إذْ إنّ الآخرين يعتبرونهم، في مجتمعاتهم، آخرين، لا لزوم لمذهبهم، ولا راهنيّة لقضيّتهم، ولا مستقبل لوجودهم كجماعة مذهبية فاعلة، موحَّدة وحاكمة في مجال مشترك· ويراهن الشيعة على اعتقادهم بأنهم هم أهل الحق وأهل الأرض الإسلاميّة، وأنَّ مذهبهم هو مذهب العدل والتوحيد والعودة إلى المجتمع النبويّ ودولتهِ المُفتقدةِ عربيّاً، والمتبلورة إيرانياً· ولا يُخفي شيعة المشرق العربي علاقاتهم الودية مع إيران (حيث مقام الغريب، الإمام عليّ الرضا في مشهد، ومقام السيدة فاطمة في قم) ومع سورية (حيث مقام السيّدة زينب في دمشق)· والشّيعة العرب وغير العرب يزورون هذه المقامات دورياً وسنوياً، كما يحجّون إلى مكة والمدينة؛ مؤكّدين من خلال الزيارة مواصلةَ ارتباطهم بالرمزية الإمامية المقدّسة، ولكن دون التحاقٍ بسياسة بلاد الزيارات (ومنها العراق، حيث مقامات معظم أئمة الشيعة في النجف الأشرف وبغداد)· ولا وهم أنّ في الزيارة الشيعيّة أداءً اجتماعياً، يمكنُ تلقيحه أو تطعيمه عقائدياً، وتوظيفه سياسياً عند الاقتضاء· فيما الذي بين شيعة العرب وشيعة العالم من ترابط سوسيولوجيّ وانثروبولوجيّ، ما زال محكوماً بتباعد الأمكنة، واختلاف الأنظمة، وانتقال المركزية أو المرجعية الإسلامية الشيعية من النجف إلى طهران حيث وليُّ الفقيه، ومزار الإمام الخميني· فهل يحتاج شيعة العرب إلى مرجعية دينية خاصة، وسط هذا التنافس الشديد على المرجعية السياسية بين دمشق وبغداد والرّياض، التنافس غير البعيد أبداً عن مرجعية القاهرة ومركزية مصر في كل العالم العربي؟ وهل قيام المرجعية الدينية الشيعية في طهران يزيد من التماسك الشيعي داخل المشرق العربي، ويُقلِّل من فرص انصهارهم أو اندماجهم في مجتمعاتهم المشتّتة ودولها المتصارعة حتى تحت سقف التضامن العربي، أو حتى الإسلامي؟