تجلى زهير جبوري وهو يطير مع لقلقه المعجون بطيبة بكر، وعوالم كأنه يستقدمها من ألف ليلة وليلة، شاحذا قدرة الشاعر لديه على خلق عوالم ساحرة أخاذة، تجعلك تنهب مسارات النص نهبا وأنت تفتش عن اللقلق لتحس أمانك ودفؤك في ظل وجوده.
أنت هنا
قراءة كتاب قلب اللقلق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
قلب اللقلق
الصفحة رقم: 1
لفصل الأول
دقت ساعة المرقد ألكاظمي، فتردد صدى أجراسها العظيمة في الفضاء الضيق للأسواق مرتطما بأبواب (دكانينها) الخشبية المغلقة، ثم دقت مرة ثانية كأن حصى ثقيلة شقت بحيرة الفجر الساكنة فتكونت دوائر صوتية اندفعت من مركزها مثل نداء طويل سرى في كلّ الجهات، كان مسنوداً بريح خفيفة هي واحدة من علامات خريف ذلك العام الذي تساقطت فيه أوراق الأمل ولم يبق شيء سوى انتظار حذر كعيون (الزرازير) لوصول الحرب القادمة، الدقة الثالثة، انتشرت في جزيئات الهواء مثل حبيبات صغيرة، ثم هبطت لتلسع أجساد الفقراء النحيلة، المتكوّرة والتي تغطيها الملابس الرثة الخفيفة،أجساد ترتعش بجانب السور الخارجي للصحن الغارق في سيمفونية الحفيف، ثم بحماسة صرّحت الرابعة للرنين أن يواصل تسلله إلى فضاء (الدرابين) التي لم تزل تحاول الإفصاح عن كامل تفاصيلها، متسربا مثل سواق صغيرة تستمدّ سريانها من نبع وفيّ للخرير، وفي تلك اللحظة التي دخلت فيها موجاته فضاء العقود الملتوية والسكك العريضة، انفتحت عيون ألمحلات التي تحتضن سوق الأسترابادي في الجهة الجنوبية الغربية، وتثاءبت الأزقة التي تتفرع من جادة باب المراد شرقا باتجاه البساتين المهددة بانكشاف أشجارها الندية أمام ضوء النهار، ثم تواصل الرنين حتى استيقظت تماما محلات أعلى الكرخ جنوبا وباب قريش شمالا كأن الصوت الذي احتفظ بعادة تجواله التاريخية هو ذلك الحارس ألأمين الذي يوقظ المدينة كلّها كي يشعر بالرضا عن إتمام عمله اليومي قبل أن يستريح،حريص على دفع أنفاسه المغناطيسية باتجاه الحذر من إهمال أي نافذة حتى لو كانت محض مشكاة يطلّ على العقد منها واحد من هذه البيوت المغروسة مثل شجر مثمر ينفخ ألأجيال منذ القدم على المساحات الغافية في حضن الفجر الذي بدأ يفرك عينيه لتخليصها من بقايا النعاس الخاسر هيمنته السوداء على (الدبغانه والنواب والسميلات وعقد السادة والأنباريين وفضوة الشيخ والشالجية) جنوبا، ثم تضوع التراب رائحة الدقة الخامسة والتي تسللت لطبقاته العميقة، فتنفستها كائنات باطن الأرض كلّها، استيقظت الزواحف التي لم يبرد دمها بعد وقبل أنْ تستسلم لسباتها الشتوي والنمل الخارج من ممالكه، أبو الجعل تتقدمه كرات الروث الصغيرة وبعر الحيوانات المتنوعة يدفعها باتجاهات مختلفة، الفئران أيضا، صعدت يسبقها جوعها، استيقظ البط والدجاج ترافقه قأقأته، صهلت خيول (المكارية) المصابة بالقروح، وتلك التي في إسطبلات الحامية، فخورة بسروجها، والتي في بناية القائمقامية أيضا، نهقت حمير السقاءين، ثم تصاعدت الفوضى التي أحدثها نهوض الماعز والخراف والحيوانات التي في زرائب الحقول المحيطة بشمال المدينة، ثم دقت للمرة السادسة فتنفست عميقا جذور الخضروات الصغيرة، الفجل والبطاطا، والرشاد،الكرفس والكراث والأعشاب المتشابكة على حافة النهر الذي يحتضن خصر المدينة، شهقت حتى الكائنات النباتية التي لم تولد بعد والمغطاة بالتربة التي في حدائق البيوت أو في المزارع الصغيرة التي اختبأت بين أشجار البساتين بعد أن تسرّبت قطرات تشرين لعروقها وقد تذوقتها بشهية مخلوطة بعناصر التربة المغذية لنّموها، ثم تمطت البذور الصاعدة إلى اكتمالها شاطبة يوما آخر من تقويم الانتظار الطويل في ممرات العالم السفليّ، فزّ العالم كلّه من رقدته مغسولا باستيقاظ كامل كأنّ رحم الليل دفع بنهار وليد وقد انسلت عوالمه الواقعية عن باطنه السابح في ألأحلام وبصيغة واضحة لا تقبل التداخل، في ذلك الوقت يمكن أن يثق المرء بتصريح يؤكّد،أنّه لم تبق زاوية في الكاظمية إلا وجرحتها خيوط الصوت الهابط من جوف الآلة المعلقة في رأس البرج، تململ اللقلق قليلا عند الدقة السابعة والتي نجحت موجاتها في ترطيب أوردة هذا البيت ذي الطابقين والذي تزينه الشناشيل المطلّة على (شناشيل) مثلها لا يفصل بينهما سوى خط يقطع الهواء طوله أربعة أمتار ثم رفع اللحاف الذي اشتراه من تاج الدين النداف قبل ثلاثة أعوام ساحبا طرفه بعصبية ثم غطى كامل رأسه مواصلا سباحته في مهرجان الألوان الصاخب كأن روح المدينة شراب اختلطت في مزيجه العناصر كلّها فأسكرت بسحر امتزاجها فضاءه الداخلي ولم يعد بمقدوره الاستيقاظ رأفة بوجوده الغارق في المسرّة.