أنت هنا

قراءة كتاب ثورة الفتى العربي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ثورة الفتى العربي

ثورة الفتى العربي

يتضمّن هذا الكتاب النصوص الكاملة لعدد من مؤلّفات رئيف خوري وكتاباته في الصحافة الشيوعية (1934 ـ 1944). هي تشمل معظم المجالات التي تناولها، من الشعر إلى الفلسفة إلى الفكر السياسي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

ما يهمّنا هنا، هو تاريخ ذلك التطوّر في الفكر السياسيّ الذي سمح للعسكريّ والكاتب الآخر، ﭘﻴﺎر لوتي، في موقف إنسانيّ يتقاطع مع مواقف العديد من كبار المثقّفين الأوروﭘﻴّﻴﻦ آنذاك، بعد انقضاء نحو قرن من الزمن على الحروب الناﭘﻮليونيّة، أن يصف الحرب العالميّة الأولى، آسفاً، بأنّها «حرب أهليّة أوروﭘﻴّﺔ». كان في ذلك الموقف ولا شكّ إحياءٌ لفكرة الوحدة الأوروﭘﻴّﺔ، وقد جرى التلويح بها آنذاك في شعار «الولايات المتّحدة الأوروﭘﻴّﺔ» مرفوعاً كحلم أو كطموح، يتجاوب صداه مع حسابات بعض المحاربين ودعاياتهم الحربيّة، أو يأتي كردّ فعل إنسانيّ على أهوال الحرب، في الوسط البرجوازيّ الصغير بخاصّة، متجاوباً مع طروحات إشتراكيّة غائمة. وهذا ما استدعى تعليقاً من لينين (في مقالة اتّخذت الشعار نفسه عنواناً لها) الذي كان يقود المقاومة، على الصعيد الأوروﭘﻲّ، ضدّ الخطّ الانتهازيّ للأجنحة اليمينيّة في الأحزاب «الاشتراكيّة الديمقراطيّة»، التي سايرت برجوازيّاتِها في الاستعداد لحربٍ وُقودُها أبناء العمّال والفلّاحين والشعب عامّة، يجري تجييشهم باسم «الوطنيّة»، من أجل «مغانم» تستأثر بها الطغمة الماليّة. اعتبر لينين أنّ ذلك الخطّ الانتهازيّ يضع السياسة الديمقراطيّة الثوريّة، الرافضة اعتبار الحرب قدَراً لا مردّ له، أمام خيارين لا ثالث لهما: مقاومة الدخول في حرب عالميّة، وفي حال الفشل العمل على تحويلها إلى حروب أهليّة تبقى أقلّ كلفة، يخوضها كلّ فصيل ثوريّ لمنع برجوازيّته من زجّ شعبه في المذبحة العالميّة، أو إرغامها على الانسحاب منها. كان اعتبار «الحرب العالميّة الأولى» حرباً «أهليّة» (كان يقال «الحرب»، ثمّ «حرب ألـ 14»، ولم تدرج تسميتها بـ«الأولى» إلّا بعد أن لاح في الأفق شبح «الثانية») يستبطن حنيناً إلى سلام مفترَض، في «وحدة» سابقة تعود بالذهن إلى ما قبل قيام الدول/الأمم (البرجوازيّة) المتحاربة. هكذا بدت تلك الحرب (العالميّة الأولى) امتداداً مؤسفاً لحروب أهليّة سابقة، كانت دينيّة الطابع غالباً، أمعنت في تمزيق «الوحدة» التي بدت قائمة على أساس من العلاقات الإقطاعيّة في القرون الوسطى، في ظلّ «الأمبراطوريّة المقدَّسة» (الجرمانيّة) التي خيّمت فوق القسم الأكبر من أوروﭘﺎ، بالتحالف مع الكنيسة، على أنقاض الإمبراطوريّة الرومانيّة. وقد ظلّ الهجس بـ«الوحدة» يعاود الظهور في منعطفات المخاض الاجتماعيّ الثوري الطويل الذي تبدّى كتقلّص متفاوت لنفوذ السلطة الدينيّة المركزيّة، وصولاً إلى الفصل بين الدين والدولة، بقيام الثورة الفرنسيّة الكبرى (1789)، كثورة ديمقراطيّة برجوازيّة خاضت الصراع السياسيّ على السُلطة باسم الإرادة الشعبيّة. وكانت الحروب الناﭘﻮليونيّة امتداداً للسياسة الثوريّة (الخارجيّة ) منتقلة من الدفاع عن الثورة إلى تصديرها، ومثيرة حنيناً إلى «الوحدة» في تناقض مع الميل الحديث إلى تشكّل الدول الأمم. كان من شأن إشعاع الثورة بتوجّهها العلماني الذي أرساه قرن من التنوير العقلانيّ، يظَهّر الخلافات الدينيّة السابقة في عهود الإقطاع على حقيقتها كنزاعات دنيويّة تَتّخذ شكل اختلافات كلاميّة (لاهوتيّة)، وتفضي إلى صدامات طائفيّة ومذهبيّة، ومجازر وحروب مقدّسة. كما تجدّد الحنين إلى «الوحدة» نفسها بمضمون رجعيّ، من جانب الرِدّة، بشكل تحالفات لدعم الحزب الملكيّ الفرنسيّ، ثمّ لمواجهة تصدير الثورة على يد ناﭘﻮليون، وبعد هزيمة هذا الأخير، بقيام «التحالف المقدّس» الأوروﭘﻲّ للقضاء في المهد على أيّ تحرّك ليبراليّ جمهوريّ تقدّميّ قد يبرز في هذا البلد أو ذاك. لكنّ ذلك لم يمنع الهجس بـ«الوحدة» من الظهور مجدّداً، بعد نحو نصف قرن، في مطلع «البيان الشيوعيّ»، كصورة شبحيّة تهجس بها أوروﭘﺎ في كلا جانبي الصراع الطبقيّ بمضمون حديث، إذ انتشرت الثورات في أوروﭘﺎ سنة 1848 كالنار في الهشيم[10]. لقد كان من الضروريّ أن يمرّ التاريخ بكلّ تلك الفصول كي يدرك كلاوساﭬﺘﺰ أن «الحرب امتداد للسياسة...»، ثمّ لتفقد العبارة معناها إن لم تزدوج «السياسة» إلى «خارجيّة» و«داخليّة»، في الدولة/الأمّة، كسياسة طبقيّة دفاعاً عن مصالح البرجوازيّة المسيطرة. وليس مصادفة أن ينهي ماركس وإنغلز «البيان الشيوعيّ»، باعتبار أنّ غاية اﻟﭙﺮوليتاريا من «الظَفَر بالديمقراطيّة» هي إحداث تغيير «يُفقد السلطةَ العامّة طابعَها السياسيّ». والمعنى واضح في لغة «البيان»: صفة «السياسيّ» هنا تعني الطبقيّ، الرأسماليّ. (إنّه المعنى الذي يعطيه ماركس للكلمة في عبارة «الاقتصاد السياسيّ»). وهنا يهزل مضمون عبارة كلاوساﭬﺘﺰ ويتسطّح إذا لم يتطوّر فهمها مُواكباً التطوّرَ التاريخيّ اللاحق، وازدواج «السياسة» التاريخيّ إلى «سياسة خارجيّة» و«سياسة داخليّة»، مع بقائها واحدة، تستمدّ وحدتها من واحديّة الطبقة المسيطرة في المجتمع الطبقيّ. تناقض؟ _ بالتأكيد! لكنّ التناقض الفكريّ، بالنسبة للمادّيّة الديالكتيكيّة، لا حلّ له في الفكر، لأنه، في الواقع المادّيّ (أي في ممارسة الطبقة المسيطرة سيطرتَها الطبقيّة)، سابق على الفكر. وبالنسبة إلى عبارة كلاوساﭬﺘﺰ، ينسحب التناقض في «السياسة» على امتدادها في «الحرب»، فإذا بكلّ حرب تزدوج كذلك إلى خارجيّة وداخليّة، عالميّة وأهليّة.
ليست عبارة «الحرب امتداد للسياسة...»، بالتالي، ببعيدة عن الإقرار بأنّ الحرب، عموماً، يمكن أن تكون، أيضاً، امتداداً لصراع سياسيّ داخليّ. كان كلاوساﭬﺘﺰ، من موقعه في حروب الرِدّة الأوروﭘﻴّﺔ، يُقِرّ بذلك عمليّاً، في الممارسة. إلّا أنّه على الصعيد النظريّ كان يُقِرّ فقط، متأخّراً، بحقيقة سبقه إليها الفكر الثوريّ على مراحل، في أوروﭘﺎ الغربيّة عموماً وفي فرنسا خصوصاً، بتحرير عِلم السياسة من اللاهوت. كان ذلك التحرير تمهيداً ضروريّاً لما سيتيحه تَشكّل الدولة/الأمّة من تقسيم العمل السياسيّ، سلماً وحرباً، إلى «شؤون داخليّة»، و«شؤون خارجيّة»، وصولاً إلى ازدواج مفهوم «السياسة»، في العِلم، أو في اللغة الدﭘﻠﻮماسيّة أقلّه، إلى مفهوميْ «السياسة الداخليّة» و«السياسة الخارجيّة»، وبالطبع، مع «امتداد» كلّ من السياستين في حرب تختصّ بها، وتتخصّص بوسائلها: الجيوش (نظريّاً) للعدوّ الخارجيّ، أجهزة القمع (بدعم من الجيش إذا لزم الأمر) للعدوّ الداخليّ. في ضوء هذا التمييز التجريديّ، في النظريّة، يتمكّن الفكر من أن يأخذ في الاعتبار، في الممارسة، أنّ الحرب ضدّ الخارج يمكن أن تكون أيضاً تنفيساً لاحتقان داخليّ، وبتعبير أدقّ، امتداداً لسياسة عنف داخليّة، خصوصاً عندما تشعر الطبقة المسيطرة أنّ زمام السلطة يُفلِت من يدها، فتعمد إلى العنف استباقاً للثورة. في مثل هذا الوضع الاجتماعيّ المأزوم تبادر الرِدّة الرجعيّة إلى قمع الثورة في الداخل باعتبارها وافدة من الخارج، والعمل في الوقت نفسه على محاربتها في الخارج، معتبِرةً إشعاعها نحو الداخل اعتداءً يكون مبرَّراً الردُّ عليه بالمِثل، أي بتصدير الرِدّة. في هذا الديالكتيك حيث يؤدي تماثل الأضداد إلى ظهور كلّ شيء في نقيضه، نستطيع من موقعنا اليوم، بـ«قليل من الفلسفة» كما يقول رئيف خوري، أي في ضوء المادّيّة الديالكتيكيّة والمادّيّة التاريخيّة، أن نرى الاختلاف الجوهريّ بين الحرب التي خبرها كلاوساﭬﺘﺰ والحرب التي واجهها «الفتى العربيّ»، باعتباره اختلافاً يتعلّق بحرّيّة الفكر وموضوعيّته. فما دمنا قد سلّمنا بأنّ السياسة هي هي الحرب، ولو باختلاف في الوسائل، لم يَعُد يكفي أن نعيد الاختلاف بين الرجلين (والزمنين)، في النظرة إلى الحرب، إلى أنّ الأوّل، الجنرال، كان عسكريّاً غير معنيّ بالسياسة مباشرةً، والثاني، الأديب، كان سياسيّاً غير معنيّ مباشرةً بالعمليّات العسكريّة. إنّ الاكتفاء بذلك يقودنا نحو الركون إلى «مادّيّة» شبه ميكانيكيّة (ديكارتيّة المنحى) تعتبر «الفكر» إفرازاً لذاتيّة «المفكّر» الفرد، تبعاً للوظيفة التي يشغلها، الأمر الذي لا يلغي تاريخيّة الفكر فحسْب، بل كذلك مادّيّته. فـ«المادّيّة» التي تقصُر «المادّة» على فيزيولوجيا (جسد) المُفكِّر، توقعه في مثاليّة ذاتيّة لا مناصّ منها إلّا بعون من الله، ووداعاً لحرّيّة الفكر وموضوعيّته في «اللاهوت» الوضعيّ، بل وداعاً للفكر في عزلة «المفكِّر» عن المجتمع والتاريخ. إنّ الاختلاف الجوهريّ في نظرة كلّ من الرجلين إلى الحرب والسياسة، هو اختلاف تاريخيّ، نتيجة تطوّر موضوعيّ خاضع لقوانين مادّيّة، الديالكتيك.

الصفحات