أنت هنا

قراءة كتاب حب في زمن الغفلة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حب في زمن الغفلة

حب في زمن الغفلة

رواية "حب في زمن الغفلة"؛ بصعوبةٍ ما بعدها تزدردُ الأحداث، الانتظارُ يلوكُ أعصابها، يدهسها...تودُّ تسمعُ صوتَه مجدداً يهاتفها بحرارةٍ، من يستعيدهُ من غيبوبته التي طعنت الجميع؟

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

(1)

يذكرها تماماً الّلحظة التي وصلَ فيها إلى تورنتو... المدينة الكندية الكبيرة، الأكثر عدداً بسكّانها، والأكثر شهرةً في شمال أمريكا...
اجتذبته بمجرّد أن وطأت قدمهُ أرضَها، بدا له كلّ ما فيها مبهجاً فاتناً... شوارع أنيقة أُحسنَ تأهيلها، ورصفُ جنباتها، أشجارٌ خضراءُ زاهية تفتحت ورودها، وأزهارٌ ملونة غُرستْ بجوار جذوعها، مبانٍ شاهقة زجاجية ملتمعة في معظمها، بشرٌ مختلفو الألوان والهيئات ينسابون بهدوء على طرقاتها عند التماع الضوء المؤذِّن بسير المشاة، وسياراتٌ تتلاحق هادئةً بلا أبواق تعلو أصواتها منها، وبلا سائقين متوترين دائماً يجلسون حول مقاودها.
مضى على وجوده في هذه المدينة الجميلة أكثر من سنة وشهر، أو ربما أكثر، وقتٌ مرّ كحلم هشّ... استقبله يومَها عمّه ابراهيم على أرض المطار، وقاد به السيارة الكبيرة الزرقاء اللون، زوجته الأجنبية السمراء جلست إلى جواره، تنتمي إلى إحدى الإثنيات العرقية الكثيرة التي اجتمعت على هذه الرقعة الآمنة من الأرض، ربما تكون جذورها برازيلية أو أرجنتينية، الصور الكثيرة التي توزّعها على الطاولات والرفوف في منزل عمه تشي بذلك، لا يسألها هو، لا يحبّ التدخل فيما لا يعنيه، عادة ربما ورثها عن أمه التي أرادت أن تعزله عن كلّ ما يزعج في الحياة...
منذ اللحظة الأولى التي سلمت عليه فيها روزيتا أحسّ بلطافتها، بدت فرِحة بوصوله كأنه قريب حقيقيّ لها، الأمر أراحه، وأسعده أكثر أنه وجدها قصيرة نحيلة، وهو يحبّ الأنثى ممشوقة تهتزّ بالحياة، لم تشبه سارة في شيء، أمرٌ أسعده.
اليوم لم يعجبه صوت أمّه عبر السكايب، ولا وجهها، بدت له شاحبةً حزينة، رغم أنها نفت كلّ إزعاج جديد، أكدت له أنها بخير، وأنّ كل أمورها عظيمة، أنهى المكالمة وهو يحسّ بضيق في صدره، لم يستطع التركيز على الدروس بعد عودته من الجامعة، خرج إلى الحديقة العامة القريبة من منزل عمّه، جلس على مقعده الأثير، إحدى عاداته التي لم يستطع تغييرها بعد، يألف الأماكن والأشخاص، ويتعلق بهم، راح يراقب أطفالاً يلعبون على الأراجيح، بعضهم ينزلق على ما يشبه التلة البلاسكتية القوية، آخرون يلعبون بالكرة، المشهد يسليه، لكنه يجد نفسه دائماً خارجه، يقع أحد الأطفال أرضاً يبدو أنه اصطدم بشيء، تسارع أمه إلى التقاطه والعناية به، وتفقّد كلّ ما فيه، يختلط مشهدها بصورة أمه هو، ليلى كما اعتاد أن يناديها... يذكر أنها حاولت قدر الإمكان أن تبدو متماسكة في اللحظات الأخيرة التي سبقت مغادرته بلاده، أرادت ألّا تتهاوى أمامه، راحت تبتسمُ كيفما التفتت، وهي تقف إلى جواره في توتر، لكنها استمرت تهربُ بعينيها منه، لم ترد له أن يرى جفنيها المتورمين من طول ما بكت ليلاً.
أبوه صالح ظهر فرحاً به، لكنه مضطربٌ كحاله دائماً، لا يستقرّ على وضع ولا في مكان، يعانقه ويخبط على كتفه بمودة، يفعل ذلك أكثر من مرة:
-أهلاً بالبطل...
يقول له محدقاً إلى عينيه، ليلى تنظره بحنق، يحاول التّودّد إليها من حين إلى حين، تبتعد عنه، تقترب منه هو، تتلهى بتفقّد حقيبتها، بتفقد ياقة قميصه الأبيض، تضعُ يدها على شعره وتمسّده، ربما تبكي بصمت، يحسّ بذلك، تبتعد مجدداً، تشيح بوجهها، لا يحب إحراجها.
حاولَ أن يجعلَ ضمّته لها سريعة، لكي لا يضنيها، لكنها اهتزت كورقة بين ذراعيه، فبكى رغم إرادته، وسارع إلى إفلاتها من حضنه.
طوال الطريق التي أوصلتهم إلى البيت حاول عمّه إبراهيم تسليته، وقد شعر ببعض انقباضه، كان يشير دائماً:
-أنظر أمامك بشّار، دخلنا الآن منطقة Centre ville، وهذه بحيرة أنتاريو، هذه المنطقة تقعُ على ضفافها.
أذهله المشهدُ يومها، مياه نقيّة، صفحة زرقاء تمتدّ بلا انتهاء، على سطحها تنسابُ سفنٌ شراعيّة كثيرة، كثيرة لم يتمكن من إحصائها، وعمه يواصل كلامه، علتها صوارٍ بيضاء بعضها ملون، تحلق فوقها طيورُ النّوارس، مشهد انتزعه من مزاجه، وجعله يشعر بانشراح لطيف أسعد عمّه.
-ستعجبك هذه البلاد، أنا متأكد، لن تندم على مجيئك...رغماً عن أنف أمك...
قال العبارة... ثم علا الندم وجهه، وقد حدجه بشار بعينيه المتسعتين...
-رأيت البط العائم هناك، أنظر، يبقى طوال السنة على هذه الشاكلة تقريباً، يختبئ مدة حينما يتجلد سطح البحيرة فقط.
يعومُ البطّ كقلبه، قال حينها في نفسه، لكنه بدا له أكثر هدوءاً منه، صوته لم يغادر شفتيه.
سحرَه المشهد في تلك اللحظة، مدى واتساعٌ رحب أنبأهُ أنّ في العالم متسعاً بعدُ، غير تلك الحدود الضيقة التي كان قد غادرها قبل حوالى خمس عشرة ساعةً.
-يُعتبرُ وسط المدينة مركزاً سياحيّاً من الدرجة الأولى في العالم، فالـ CNTOWER هذه الناطحات الهائلة ذات الهندسات الرائعة بحداثتها، تشرف على المدينة بأسرها، مشكلةً عنصر جذبٍ هائلٍ للسياح، تعرف أن ارتفاع بعضها يبلغُ نحو 533 متراً؟
لم يكن بشار يفعل أكثر من هزّ رأسه نافياً.

الصفحات