"الآباء اليسوعيون"؛ هذا كتاب خارج عن المألوف بموضوعه ومضمونه.
قراءة كتاب الآباء اليسوعيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الثالث
دكاترة باريس
يدعي بعضهم أن الرهبانية اليسوعية كانت تتألف من ميليشيا عدادها جنود أفظاظ، أي نوع من الكوماندو البابوي يديره جنرال شبه عسكري يهاجم ويقمع الحركة الإصلاحية داخل الكنيسة الكاثوليكية. ويعتقد بعضهم الآخر أنّ هذه المجموعة من الرفاق الأوائل كانت تشكل بكل بساطة أخوية مؤلفة من تلامذة متنورين، في الوقت الذي كانت فيه باريس فرنسوا الأول المهد الثقافي للغرب. يقول المؤرخ اليسوعي الأب فوكورايه16 يقول في بدايات القرن العشرين إن هذه «المجموعة التأسيسية عرفت كيف تبرهن أنها وليدة عصرها، وشدّدت على الاعتراف بأهمية الدراسات الأدبية والعلمية». يجب التركيز هنا على أنّ الرجال الستة الذين اجتمعوا حول شخص دي لويولا وأعلنوا عن نذورهم في كنيسة مونمارتر بتاريخ 15 آب 1534 كانوا من رجال الفكر الذين استحصلوا قبل كل شيء على ثقافة فلسفية وأدبية17.
حصل هذا اللقاء بين نوابغ من قشطالة والنافارا والسافوا وبلاد الباسك والبرتغال في باريس عاصمة الغرب الثقافية بسبب فرض الدراسة الجبرية على هذه المجموعة من طرف محاكم التفتيش قبل الحصول على إذن رسمي في مناقشة الآخرين ومخاطبتهم في الأمور اللاهوتية. أسهم هذا الأمر في تنشئة «دكاترة باريس» الذين تركوا بصماتهم الخيّرة على تاريخ المسيحية الديني وعلى تاريخ البشرية العلمي والثقافي والتربوي. في هذه الحقبة الزمنية الإشعاعية أنشأ الملك الفرنسي فرنسوا الأول «معهد اللغات الثلاث» أي اليونانية واللاتينية والعبرية، الذي أصبح لاحقاً «الكوليج دو فرانس» المرموق عام 1530. لكن الحركة الإصلاحية التي عُرفت تحت اسم «الرينيسانس» أو عصر النهضة انتشرت بسرعة فائقة في فرنسا على عكس إيطاليا وإنكلترا وهولندا وألمانيا ورينانيا.
إن رفاق مونمارتر الذين قصدوا باريس في تلك الفترة بحثاً عن المعرفة، تتلمذوا على أفكار كبار الأساتذة من أمثال القديس توما الأكويني الراهب الدومينيكي وعالِم اللاهوت الذي دعا إلى التوافق بين الإيمان والعقل (1225-1274)، وجان جيرسون (1363-1429) الفيلسوف المتصّوف، وعاﻟِم اللاهوت الفرنسي الذي أسهم في وضع حد للانشقاق الكبير، وساعد على انعقاد مجمع كونستانس المسكوني(********)، وجورج بوكانن (1506-1582) الإسكتلندي الذي نادى «بالملكية المحدودة» وغيليوم بوستال (1510-1581) الذي كان في عداد البعثة الدبلوماسية التي أرسلها فرنسوا الأول إلى القسطنطينية والذي نادى بالمصالحة مع الأتراك والمسلمين، مما أدى إلى سجنه من قبل محاكم التفتيش.
يقول الأب فوكوراي: «بعد اراسموس أعلنت مجموعة من البحاثة أنّ دراسة الآداب العائدة إلى العصور القديمة سوف تجعل الإنسان أكثر تمدناً وأكثر إنسانية. هكذا نشأ تيار فكري هدّد في تقاليده الجديدة جامعة باريس القديمة، وكان بالإمكان ملاحظة وجود أنسنة مسيحية، وهي كناية عن مذهب فكري يُعنى بتنمية مناقب الإنسان، ولكننا وجدنا أنفسنا أمام أنسنة خلاعية فاجرة عملت على إشاعة النقد الفقهي أو الفلسفي». لقد قوّض هذا التيار الفكري الجديد ركائز السلطة ودعا إلى التحرر الفكري وفَسّر بطريقة جريئة ووقحة تعاليم الكنيسة والآباء، وجَعل المؤسسات والعقيدة موضع السخرية.
عام 1982، أكّد الأب اليسوعي الألماني يورغ شورهامر18 على أن اراسموس قوّض سلطة الكنيسة وأساء بقوة إلى الإيمان المسيحي والهيكلية الكنسية، وقد تضاربت في شأن اراسموس أقوال الآباء اليسوعيين إذ إن الأب جوزف لوكلير19 أشاد به مطولاً في مقالة كتبها عام 1950 في «مجلة علم اللاهوت الجديدة» قائلاً بأنه خدم مصالح الديانة المسيحية العليا، ونادى بالتسامح والإحسان وإصلاح العادات. ولكن اراسموس لم يتفرّد وحده بهذه الآراء عندما نرى نيكولا بوباديلا مثلاً، من أوائل رفاق اغناطيوس يقول: «إنه في هذه الحقبة التي بدأت فيها الهرطقة اللوثرية تنتشر في باريس، فكل من يعمل على دراسة اللغة اليونانية القديمة يساعد على تفشي الحركة والأفكار اللوثرية»، علماً أنّ أول رفيق لأغناطيوس بيار فافر كان من أكبر المجّندين في سبيل تعليم اللغة اليونانية، وأسهم في ترجمات متعددة لكتابات في هذه اللغة كان لها كبير الفائدة من جميع النواحي. لكن الحرية التي منحها فرانسوا الأول لرجال الفكر ساعدت في انتشارالأفكار المناوئة للكنيسة الكاثوليكية عندما انبرى لويس دي بيركان الدكتور في علم اللاهوت وصديق اراسموس الذي ترجم إلى اللغة الفرنسية الكثير من مؤلفاته، لإشاعة النصوص الإصلاحية وإعلان نفسه من الحركة اللوثرية، مما أغضب جامعة السوربون وجعلها تطالب بإحراقه. الملك فرانسوا الأول نجح في إنقاذه للمرة الثانية قبل التخلي عنه وتسليمه إلى قاضي محكمة التفتيش نويل بيدا الذي لم يكن يرحم، والذي بعد محاكمته سلمه إلى المحرقة، التي كان قد سبقه إليها الكثيرون.
هكذا انتهت حقبة القرون الوسطى، على توقد نار المحارق وسط الخلافات العقائدية في مدينة باريس في أوج النهضة التجارية والهندسية والتوسع الديموغرافي، والحرب شبه المستديمة بين الملك فرنسوا الأول والأمبراطور شارلكان.(********) ولكن الكاثوليكية بقيت سيّدة الموقف خلال تلك الفترة حيث كانت تواجه شتّى أنواع الضغوطات، جراء الدعم الذي قدمه لها الملك الفرنسي على الرغم من اتهامه بالتراخي أمام الهراطقة.
عندما دخل أغناطيوس مدينة باريس في 2 شباط 1528 من بوابة القديس يعقوب، كان يركب حماراً محملاً بالكتب كما فعل قبل ثلاثين شهراً بيار فافر وفرانسوا كزافير. لم يشر المؤرخون إلى مسار أغناطيوس من برشلونة إلى باريس، ولكنه قطع الأراضي الفرنسية، في قمة عدائها للأمبراطور شارلكان في وقت كانت المملكة الفرنسية تعاني الفقر إضافة إلى أوقات صعبة جراء الحرب. حطّ أغناطيوس رحاله في شارع سان سامفوريان الملقب بـ«شارع الكلاب» حيث يقع معهد مونتيغو، وكانت باريس يومها مقسمة إلى ثلاثة أقسام من الجنوب إلى الشمال، بين الجامعة مركز المعرفة، والحاضرة موقع السلطات، والمدينة مركز التجارة.
عندما نتكلم عن الجامعة في باريس، نخص بالذكر الحي اللاتيني ملتقى الثقافات والعلوم والمعارف، إذ سارع أغناطيوس إلى تسجيل نفسه في معهد مونتيغو، في حين أنّ جامعة باريس كانت بمثابة جمهورية من الأساتذة الذين يعملون في أربع كليات متخصصة في اللاهوت والطب والقانون والفنون الجميلة. ففي كنيسة سان جوليان الفقير كان يتم انتخاب رئيس الجامعة من قبل الأساتذة ويصبح هكذا مطاعاً من الهرمية التعليمية ومن التلامذة على السواء كما يطاع الملك، أي دون منازع. أما بالنسبة إلى الدراسة، فلقد اختار أغناطيوس كما سائر رفاقه فرع الفنون، والتزموا التزاماً كاملاً بالقوانين المرعية الإجراء، في الوقت الذي كان فيه القصاص الجسدي صارماً وقاسياً، مع أنه فقد الكثير من وحشيته مع انتهاء حقبة القرون الوسطى.
لقد أتى المؤرخون على ذكر صراخ الأطفال الذين يتعرضون للعذابات الجسدية، أو للهيب السياط لأنهم تكلموا الفرنسية عوض اللاتينية، لكنّ أغناطيوس الذي تأثر كثيراً بهذه الطرق التربوية اللاإنسانية، حاول انتهاج طريقة جديدة، ولكنه وجد نفسه في مواجهة نويل بيدا في أواخر شهر شباط 1528 الذي اختص بإرسال الهراطقة إلى المحارق، بعد تسلمه إدارة معهد مونتيغو.