كتاب "نساء مؤمنات"، للإمام يوسف القرضاوي، يقول في مقدمته: كتبت عن الإيمان والحياة ، وعن قضايا الإيمان الكبرى ، مثل قضية وجود الله جل جلاله ، وقضية التوحيد أساس الإيمان ولبه في الإسلام ، وقضية الإيمان بالقدر وغيرها .
أنت هنا
قراءة كتاب نساء مؤمنات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خديجة المؤمنة
ثلاث نسوة بارزات في حياة الرسل الثلاثة أصحاب الديانات الأخيرة الكبرى : آسية امرأة فرعون في حياة موسى ، ومريم ابنة عمران في حياة عيسى ، وخديجة في حياة محمد عليه السلام ، كل واحدة منهن كفلت نبياًّ مرسلاً قبل بعثته ، وأحسنت الصُحبة في كفالته ، وصدَّقت به بعد رسالته ، لهذا جمع الرسول بين هؤلاء الكوامل في عقد واحد فقال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنته عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد.
وإذا كان بعض الحكماء يقول :=إن وراء الرجل العظيم امرأة تشد أزره . أماًّ كانت أو زوجاً فقد كانت خديجة المرأة التي وراء محمد عليه الصلاة والسلام .
أعانته في الجاهلية على حياته الطاهرة النقية البعيدة عن الأوثان والخمر والميسر واللَّغو والشهوات ، وكانت له ظهيراً في حياة التجرد والتأمل والبُعد عن صخب الناس وضوضاء الحياة .
كانت تُهيئ له الزاد كل عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء ، ولو كان الأمر لعاطفتها المجردة ما رضيت ـ كامرأة ـ أن يغيب عنها ليلة واحدة ، فكيف باللَّيالي ذوات العدد ؟
ولكنها تحس أن زوجها غير الرجال ، وأن له شأناً أي شأن ، فلتكن عونه على مُثله الرفيعة ، وقيمه العليا ، وقد كانت تصحبه أو تزوره أحياناً في هذا الغار وتبقى معه أياماً وليالى تؤنسه وترعاه ، ومن طواعيتها له قبل البعثة ومسارعتها في هواه أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة ـ بعد أن صار في ملكها فوهبته له ، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام .
هذه خديجة في الجاهلية ، وأما بعد الرسالة ، فاستمع إلى عائشة تروي موقفها من الرسول حينما تلقى أول شحنة من وحي السماء في غار حراء ، وغطَّه جبريل حتى بلغ منه الجهد ، فعاد إلى خديجة ترجف بوادره يقول : زملوني ، زملوني ، لقد خشيتُ على نفسي . . . .
ولم تكن خديجة ممن يطير لبها فزعاً ، ولم يكن هذا الطارئ العجيب الغريب ليذهلها عن سداد الرأي ، ومنطق الحكمة ، لقد عرفت بنور بصيرتها وسلامة نظرتها سنة الله في معاملة عباده فقالت لزوجها في ثقة ويقين : كـلا والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكَل ، وتكسب المعدوم ، وتصدق الحديث ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر .
وفي رواية قالت له : أبشر واثبت ياابن عم ، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة .
ولم تكتف بالقول ، بل صحبته إلـى ابـن عمهـا ورقـة ابن نوفل ـ وقد كان امرءاً تنصَّر في الجاهلية ، وعرف العبرانية ، وكتب بها من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ـ فقالت له خديجة : أى ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فـقال له ورقة : ياابن أخى ما ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى .
وهكذا كانت خديجة ملاك الرحمة ، والمرفأ الأمين ، والملاذ المكين لمحمد عليه السلام .
كانت أنسه إذا استوحش ، وكنزه إذا احتاج ، وأمله إذا استيأس ، وطمأنينته إذا اضطربت من حوله الحياة .
قال ابن إسحق : كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله ، وصدَّق بما جاء به ، فخـفـف الله بـذلـك عـن نبيه ، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه ، من الرد عليه ، والتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تُثبِّته وتخفِّف عنه ، وتهوِّن عليه أمر الناس .
شاطرته متاعب الدعوة ، وآلام الرسالة راضية مغتبطة ، دخل الشعب فدخلت معه ، وذاقت مرارة الحرمان وعضة الجوع ، وهي ذات المال الوفير وربيبة الرفاهية والنعيم ، فلا عجب أن يحمل إليها أمين الوحي السلام من فوق سبع سموات !
روى البخاري عن أبي هريرة قال : أتى جبريل إلى رسول الله * فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه طعام ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها . . ومني ، وبشـرهـا بـبـيـت فـي الجنـة مـن قصـب ، لا صخب فيه ولا نصب(1).
قال السهيلي : إنما كان البيت بهذا الوصف ، لأنها لم ترفع صوتها على النبي * ولم تتعبه يوماً من الدهر ، ولم تصخب عليه مرة ولا آذته أبداً .