كتاب " اكتشاف جزيرة العرب خمسة قُرون من المغامرة والعِلم " ، تأليف حمد الجاسر ترجمه إلى العربية قدري قلعجي ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما
أنت هنا
قراءة كتاب اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقـدمة
بقلم الشيخ / حمد الجاسر
لا مغالاة فى القول بأن لكثير من علماء الغرب من مستشرقين وغيرهم ، يدًا طُولى فى إبراز معالم تاريخ جزيرة العرب ، وفى كشف ما خفى من آثارها ، فضلاً عما لهم من فضلٍ فى إحياء التراث الإسلامى ، والشرقى ، بوجه عام .
ولقد تصدى لذلك منهم فئتان : فئة عُنيت بنشر المؤلفات القديمة ، ومنها ما يتعلق بتاريخ العرب وجغرافية بلادهم ، نشرًا يبلغ الغاية فى تحقيق النصوص ، وتقريب إدراكها بالتبويب والترتيب ، ووضــع الفهارس الكاملة ، لمختلف موضـوعات تلك النصــوص ، بحيث أصــبح عملهم - فى هذا المجال - مثالاً يُحتذى ، فى الجودة والدقة، وبلوغ ما يُتَوخّى من نشر المؤلفات .
ومن الإنصاف ، بل من الاعتراف بالفضل لذويه ، القول بأن كُلّ مَعْنىٍّ بالبحث فى تاريخ الجزيرة وجغرافيتها ، مايزال عالةً على ما نشره أولئك المستشرقون وحققوه من المؤلفات القديمة عنها ، ولنتناول - على سبيل المثال لا الحصر - كتاب ( معجم البلدان ) لياقوت الحموى ، ويعتبر من أوفى المراجع عن الجزيرة بل عن البلاد الإسلامية فى القرن السابع الهجرى وما قبله ، فهذا الكتاب القيّم الضخم نشر ثلاث مرات ، مرتين فى القاهرة وبيروت ، والمرة الثالثة - وهى الأولى - تولاها المستشرق الألمانى ( فردنند وستنفلد ) منذ ما يقارب القرن من الزمان ، وشتان بين ما قام به العالم المحقق من جهدٍ وإتقان فى نشرته ، من حيث تحقيق النص ، والرجوع إلى مصادره ، ومن حيث وضع الفهارس المستوفاة الكاملة ، وبين ما قامت به داران كبيرتان تعتبران من أقوى دور النشر فى البلاد العربية . هذا العالم الغربى الذى لم تَحُلْ عُجمته ، وبعده عن العرب وعن بلادهم ، بينه وبين أن يُقدِم على مخطوطة قديمة أخرى ، تتعلق بجغرافية تلك البلاد ، وتبلغ مئات الصفحات ، مثل « معجم ما استعجم » لأبى عبيد البكرى الأندلسى فينسخها بخط يده ثم يتولى مقابلتها بأصح ما يعلمه من نُسَخ لتلك المخطوطة ، بعد أن يحصلها من مختلف مكتبات العالم ، ثم يقوم - بعد كل ذلك - بنشرها على خير ما عرف من طُرق النشر وأقربها للصحة ، وأيسرها للاستفادة ، بحيث لم يستطع ناشر عربى أتى بعده ، فوجد الطريق مُعَبّدًا ، أن يبلغ مبلغ ذلك العالِم الغربى فى الدقة والإتقان .
وقُلْ مثل هذا عن كتاب « صفة جزيرة العرب » للهمدانى ، الذى تولى نشره للمرة الأولى العالم النمساوى ( داود هنرى ملّر ) فأخرجه فى سنة 1884م - ما ستطاع آن ذاك - فى أتقن صورة ، وأوفى تحقيق بعد أن أضاف إلى الأصل من الفهارس ومقارنات النصوص مِثْلَيْه . وعن طبعته ونسخ مخطوطة لم يطّلع عليها نشرت ( دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر ) الكتاب بتحقيق العلاّمة الأستاذ محمد بن على الأكوع ، مؤرخ اليمن فى هذا العصر .
بل من ذا الذى ينكر فضل المستشرق الهولندى « دى خويه » ؛ إذ جمع عددًا من أمهات كتب الجغرافيا القديمة ، ونشرها - بعد تحقيقها ، والمقابلة بين أصولها ، والرجوع فى ذلك إلى كثير من المؤلفات - باسم ( المكتبة الجغرافية ) ؟
إن ما قام به هؤلاء العلماء الثلاثة يعتبر جزءًا يسيرًا مما قام به إخوانهم من العلماء الباحثين حيال التراث العربى الإسلامى ، بوجه عام ، مما لا تسمح المناسبة ؛ مناسبة كتابة هذه المقدمة ، بالتوسع فى الحديث عنه .
وقبل هؤلاء ، أتت فئة أخرى ، هى فئة الرواد من العلماء والمغامرين الغربيين ، الذين كشفوا كثيرًا من معالم جزيرة العرب وآثارها ، وعرفوا المجهول من مختلف أخبارها وأحوالها ، بعد أن جاسوا صحاريها ، واخترقوا فيافيها وقفارها ، ووصلوا إلى أصقاعها النائية ، وتوغلوا فى مجاهلها، مدفوعين بدوافع مختلفة ، مستهينين فى سبيل ذلك بجميع الأخطار والصعوبات ، مهما بلغت من شدة وعنف ، ضاربين أروع الأمثال بصبرهم وجلدهم ، وتحمّلهم لنمط من حياة الشظف والقسوة ؛ قَلّ أن يستطيع ابن الصحراء نفسه أن يجاريهم فى تحمّله فى هذا العصر .
ونجد أمثلة واضحة لمغامرات هؤلاء الرواد الأوائل فى هذا الكتاب الذى عرّبه الأستاذ قدرى قلعجى ، عن اللغة الفرنسية ودعاه « اكتشاف جزيرة العرب » فأضاف - بعمله المشكور ، من تعريب ، ونشر - إلى المكتبة العربية كتابًا جديرًا بالقراءة ، لا من المعنيين بالبحث والدراسة فى تاريخ الجزيرة وجغرافيتها وحدهم ، بل من كل قارئ عربى لم يتمكن من قراءته بلغته الأصلية .
لا أدرى أيؤخذ قارئ هذا الكتاب - كما أُخذت - بوضوح تصويره نماذج من مغامرات عدد غير قليل من الرحّالة الغربيين ، ممن استهوتهم « جزيرة العرب » بسحرها ، فهاموا فى قفارها، سعيًا وراء المجهول من أخبارها ، حتى أصبحت سِيَرهم وأخبار رحلاتهم جزءًا من أساطير تلك الجزيرة ، فى غرابتها واستهوائها للباحثين ؟ ولكننى لا أشك بأنه سيستمتع حقًا بما أبرزه هذا الكتاب من جوانب قوية ، من حياة بعض أولئك الروّاد ، وبما تميّزت به تلك الحياة - بنوع خاص - من التضحية ، والاستهانة بكل مشقة ، فى سبيل الوصول إلى نتائج ، عادت بفوائد جمّة ، على كل باحث فى تاريخ الجزيرة ، ودارس لأحوال سكانها ، بصرف النظر عن بواعث السعى للوصول إليها .
وقد لا يحتاج القارئ إلى السير معه - فى ثنايا الكتاب - لإدراك الجوانب المهمة من نتائج تلك الرحلات ، كالكشف عن آثار الحضارة العربية القديمة فى جنوبى الجزيرة ، والوصول إلى حل رموز الأبجدية الحميرية « خط المُسْند » حلاً أضاف معلومات جديدة ، عن حلقة كانت مجهولة لدى العرب أنفسهم ، من تاريخ ذلك الجزء من بلادهم ، فبرزت بفضل معرفة قراءة « المسند » فى آثاره ، من محافِد وسدود ، ودول تعاقبت الحكم فيه ، كالدولة « المعينية » و« السبئية » و«القتبانية» و« الحِمْيريّة » .
إلاّ أن بين ثنايا الوصف الموجز لتلك الرحلات - فى هذا الكتاب - لمحات قد يكون من فائدة القارئ أن يطيل الوقوف عندها .
فهذا الرحالة الذى عرف باسم « لويس فارتيما البولونى » والذى قام برحلته فى مطلع القرن السادس عشر الميلادى ( التاسع الهجرى ) فقاسى فى خلالها من العذاب ألوانًا من السجن والتعذيب ، وضروب الإهانة ، تجد فيما دوّن من أنباء رحـلاته وصفًا أخّاذًا لميناء « جـازان » قد لا تجده فى أى مؤلَّف عربى ، ألّف فى ذلك العهد أو قبله (ص 39) .
ثم هذا الرحالة - رغم كل ما قاسى من ضروب العذاب - قدّم لأبناء جلدته من الأوروبيين معلومات كانوا يجهلونها عن « مناسك الحج » وعن مدينتى « مكة » و« المدينة » على جانب كبير من الصواب ، فى عصر كان أولئك لا يعلمون شيئًا فى هذا المجال .
وتبرز رحلة الربان الهولندى ( فان دون بروكه ) ميناء ( المَخَا ) أعظم ميناء فى اليمن فى مطلع القرن السابع عشر ، هذه البلدة التى اقترن اسمها عند الغربيين باسم ( البُنّ ) منذ كانت المرفأ التجارى لتصديره ، إلى أن أوشكت أن تزول من الوجود فى عصرنا هذا .
ويصف هذا الرحالة الهولندى ( ص67) مظاهر الترف فى حياة ولاة اليمن من الأتراك ، إبّان سيطرتهم عليه ، ويُسجل ظاهرة غريبة فى طريقة حكم هؤلاء لتلك البلاد فيقول ( ص67) : « وكان هذا الباشا الكثير البذخ، قد وسّع سياسة الرهائن للاحتفاظ بسلطته على العشائر العربية. ويذكر أن عدد الرهائن قد بلغ الألف ما بين رجال ونساء وأولاد ، من إخوة وأخوات وأبناء عظماء المقاطعات التى أخضعت بهذه الوسيلة » . هذه الظاهرة السيئة التى بقيت إلى عهدنا هذا .
وقَلّ أن نجد وصفًا - فى الكتب التى بين أيدينا - أبدع ولا أقرب إلى الحقيقة من وصف «دكسيتر» لقوافل الحجاج ( ص 74) وهو إنجليزى اختطف ثم بيع واستُرق وجاء إلى مكة فى الربع الأخير من القرن السابع عشر .
وتتجلّى للقارئ بوضوح ، قسوة الحياة التى يعانيها أولئك المغامرون فى قصة ( بعثة جامعة غوتنجن ) التى بعثها ملك الدانمارك إلى الجزيرة فى عام 1761 فلم يعد منها سوى العلامة نيبور ، وابتلعت الجزيرة الأربعة الآخرين ، إلاّ أن ما أسداه نيبور من يدٍ فى ميدان البحث يخفّف ألم الفجيعة بفقد تلك النخبة المختارة من العلماء المغامرين .
أما الرحالة الألمانى « ستيزن » الذى ادّعى الإسلام ، وحج عام 1810 ، ورسم مخططًا للمدينة المنورة ، والذى بواسطته عرفت أوروبا لأول مرة الكتابة الحميريّة ، فلم يكن أسعد حالاً من ( بعثة جامعة غوتنجن ) لقد توفى مسمومًا فى سجن ( تعزّ ) ! .
فيما سجله الرحالة الدانماركى الأستاذ « كارستين نيبور » - الذى وصفته المؤلفة ( بحقٍّ ) بأنه النموذج الكامل للرائد العالم ذى النزعة الإنسانية - تستوقف القارئ العربى ملاحظتان مهمتان من ملاحظاته :