فلنحـــسن الظــــــن...!
أرى أن كثيرا من المشكلات التي تحدث بين الناس سببها سوء الظن والتفكير بشكل خاطئ ومحدود. فسوء الظن هو وراء كل خصام، وهو وراء كل جدال وشجار، وكل كره وبعاد، وكل حقد وضغينة، ووراء انهيار العلاقات الحلوة الجميلة.
وسوء الظن أن يفهم المرء الأمور بشكل خاطئ، ويفسرها تفسيرا لا يتفق وحقيقة ما تتضمنه من معانٍ وأفكار، بل هو تحريف القول عن مواضعه، وتأويل الأحاديث بطريقة مقلوبة، ووضع الأمور في غير نصابها الصحيح. من هنا، فالشخص الذي يسيء الظن يصبح يفسر الحركات كما يراها هو وليست كما هي على أرض الواقع، ويفهم الكلام كما يتراءى له وليس كما يتضمنه من معاني وأفكار، ويترجم الأشياء بشكل يتفق وخلفيته الثقافية والاجتماعية وليس كما هي على حقيقتها، وما كل ذلك إلا لجنوح في خياله، أو شطط في مشاعره، أو ضيق في تفكيره، أو نقص في ثقافته، أو تعصب في أفكاره ومبادئه، أو فقر في خبراته.
وسوء الظن يعد بمثابة الإثم الذي يستوجب التوبة والاستغفار، لأن فيه اتهام الآخر بما ليس فيه، وإيذاءً لمشاعره، وطعنا لأفكاره ومبادئه، وظلما له وبهتانه، وخاصة عندما يؤدي إلى تفسير سلوكه تفسيرا خاطئا، أو تحليل مشاعره تحليلا مغايرا، فيظن فيه الصدق كذبا، والبراءة رذيلة، واللطف مجاملة، والحب مصلحة، والتقرب منفعة، والتودد نفاقا، والإخلاص تهاونا، فيستهين به وبكلامه ومشاعره وتقربه ولطفه وإخلاصه، ولا يحسب له أي حساب، بل على العكس فتفهم مشاعره ـ عند سوء الظن ـ فهما عكسيا، مما يؤدي إلى إيذائه وضرره والإساءة إليه وإهانته وظلمه، وما كل هذا إلا لأن سيئ الظن لا يفكر تفكيرا صحيحا، ولا يضع الأمور في نصابها الصحيح، ولأنه يحكم على الأمور حكما ذاتيا بعيدا عن الواقع والموضوعية.
وسوء الظن عواقبه وخيمة، ونتائجة ضارة ومدمرة، فإذا حدث بين الأصدقاء فيبعدهم، وإذا تسرب إلى الأزواج فيفرقهم، وإذا طال الزملاء فيؤذيهم، وإذا دلف إلى الأبناء والآباء فيجحدهم ويعقّهم، وإذا تسلل إلى الأحباب فينفرهم ويبعدهم. لذا، فيجب على الإنسان قبل أن يسيء الظن بالآخرين أن يتروى ويستهدي، وألا يطلق الأحكام جزافا ويتهمهم بما ليسوا فيه، ومن المفروض قبل أن يسيء المرء الظن، أن يتفكر ويتأمل ويربط الأحداث بمسبباتها ويفسرها ضمن مواقيتها والخلفية التي انطلقت منها لا أن يكون ضيق التفكير محدود الأفق لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، ولا يعيش إلا في لحظته، ولا يخرج عن إطار محيطه وبيئته، ولا يفكر إلا في حاضره. وحتى لو حدث سوء الفهم، فيجب المكاشفة والمصارحة قبل اتخاذ القرار بالبعاد والقطيعة أو النظرة السلبية المقيتة، والمفروض التدبر في الخلفية التي انطلق منها الآخر في كلامه وأفعاله وهمساته وحركاته قبل أن يفسر كلامه بشكل خاطئ، أو يحلل مشاعره بشكل مقلوب، والمفروض أن ينتهج منهج المفاتحة قبل أن يسيء الظن بالآخرين ويتهمهم ويؤذي مشاعرهم ويبتعد عنهم، كما عليه أن يعطي الآخر فرصة التعبير عن نفسه وأفكاره وأفعاله قبل أن يساء الظن به ويحكم عليه، وأن يعطي نفسه أيضا بعدا زمنيا لاختبار فرضيته قبل أن يسيء الظن ويصدر الحكم، وذلك حتى تتضح الأمور وتتجلّى على حقيقتها، ويظهر كل شيء على طبيعته، وبعد التحقق والتمحيص يستطيع الشخص أن يحكم ويتخذ قراره في الابتعاد أو التقرب. أما أن يسيء الظن نتيجة لجموح في خياله، أو ضيق في أفقه وتفكيره، أو تعصب لأفكاره ومبادئه، أو لغاية في نفس يعقوب، فهذا هو الغباء بعينه إن لم يكن فيه الظلم والإثم اللذان يستوجبان غضب الله وسخطه.
ونعود ونقول، لأن الفرد قد يفكر بطريقة مغايرة عن تفكير الشخص الآخر، أو يقوم بعمل قد لا يقصده الطرف الآخر، أو يتفوه بكلام لا يعكس المعنى نفسه الذي فهمه الطرف الآخر، يقع سوء الظن ويحصل سوء الفهم، ومن ثم تقع القطيعة والفراق، وتنتهي العلاقات الجميلة ويسدل عليها ستار البغض والقطيعة، والتي ـ لولا سوء الظن ـ لأزهرت وأينعت وأثمرت الدر والجوهر، ولملأت الحياة حبا وسعادة وعملا وإخلاصا وراحة نفسية وطول عمر. هيا فلنحسن الظن بالآخرين هدانا الله.