أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 6

والحقّ، كلّ هذا ينطبق تمام الانطباق على سعيد نفسه، فلم يتبرّم من كونه أميركيّا، ولكن من الصعب أن يعثر المرء على كتابة له لا تَمور فيها فكرة الاقتلاع، ولا تموج بمشاعر الاغتراب، ولا يتعالى فيها القلق، ولا تضطرب فيها الشكوك· وباستعارة تحيل على تجربته يستطرد سعيد متحدّثًا عن نظيره: لم يحاول نقّاد كونراد إعادة بناء ما دُعي بخلفيّته البولنديّة إلاّ بعد وفاته بفترة طويلة، تلك الخلفيّة التي لم يجد منها طريقه المباشر إلى قصّ كونراد سوى أقلّ القليل· غير أنّ معنى كتابته المراوغ المتملّص لا يُقدّم بسهولة أو يسر، ذلك إنّه حتى حين نجد الكثير عن تجاربه البولنديّة وأصدقائه وأقربائه، فإنّ تلك المعلومات بحدّ ذاتها لن تهدّئ ذلك اللُّباب من عدم الاستقرار والقلق الذي يدور عمله من حوله دون كلل أو ملل· وندرك في نهاية المطاف أنّ القوام الفعليّ لهذا العمل إنّما هو تجربة المنفى أو الاغتراب التي لا سبيل لمعالجتها· فبصرف النظر عن مدى قدرته البارعة على التعبير عن شيء ما، فإنّ النتيجة تبدو له على الدوام ضربًا من التقرّب ممّا أراد أن يقوله، وممّا قاله متأخّرا جدًّا، بعد اللحظة التي كان يمكن للقول فيها أن يكون مفيدًا(12)·

هذا الوصف لحال كونراد العالق بين لغتين وعالميّن، دفع بسعيد إلى وصف تجربته المماثلة لتجربة صنوه البولنديّ، إنّ العربيّة لغتي الأصليّة، والإنجليزيّة لغتي المدرسيّة، كانتا مختلطتين على نحو يتعذّر فصمه: فلم أعرف أبدًا أيّهما كانت لغتي الأولى، ولم أكن أشعر بأنّني مرتاح تمامًا في أيّ منهما، على الرغم من أنّني أحلم بكلتيهما· وفي كلّ مرّة أنطق بها جملة إنجليزيّة، أجد نفسي أردّدها بالعربيّة، والعكس بالعكس(13)· وأردف: وجدَت نفسي وأنا أُحيي من جديد ما في سنواتي الأولى من مآزق سرديّة إحساسي بالشكّ، وبكوني خارج المكان، وشعوري الدائم بأنّني أقف في الركن الخطأ، في مكان بدا كأنّه ينزلق منّي بعيدًا كلّما حاولت أن أحدّده أو أصفه(14)· والمماثلة بين تجربتَي كونراد وسعيد أشار إليها هو بنفسه مرارًا، وأشار إليها سواه أيضًا(15)·

التريّث طويلاً أمام تجربة كونراد، والتأمّل فيها وتقليبها من طرف سعيد، إنّما هو عتبة للولوج إلى تجربته الشخصيّة والثقافيّة، بوصفه مفكّرًا ومنفيًّا، فتجربته تصلح بدورها أن تكون ذكرى استعاديّة يمكن بها إعادة اكتشاف تجربة كونراد في ضوء الارتباك الذي تفرضه المنافي وشروطها القاسية، ويقرّره تزاحم اللغات الجديدة، بما يؤدّي إلى دفع اللغة الأصليّة إلى الوراء، ومعها التصوّرات الذهنيّة المصاحبة لها، ويقترح لغات بديلة لها متصوّراتها الجديدة، وبذلك تُخرّب الصلة الطبيعيّة مع المكان الأوّل، وتفرض صلة ثقافيّة جديدة، فتقع القطيعة بين المنفيّ ووطنه ليس بالمعنى المباشر فحسب، إنّما بالمعنى الرمزيّ؛ إذ يتراجع دور اللغة الواصفة، وينحسر التواصل، ويجري ترحيل الوطن المفقود من مرتبة الواقع إلى مرتبة الذكرى المستعادة·

وفي ضوء هذا الانزلاق اللغويّ والثقافيّ تنزلق الهُويّة بصورة متواصلة، فلا تكتمل ولا ترسخ ولا تتّضح معالمها ولا تعرف الثبات النهائيّ، فالهُويّة أو التطابق أمر مضجر بقدر ما يمكن للمرء أن يتخيّل· ولا شيء يبدو أبعد عن الإثارة والتشويق من الدراسة النرجسيّة للذات، التي تستبدل بها اليوم في كثير من الأمكنة سياسات الهُويّة أو الدراسات الإثنيّة، أو ضروب التأكيد على الجذور والاعتداد الثقافيّ والقوميّة الصاخبة··وإذا ما كان علينا أن ندافع عن الشعوب والهُويّات المهدّدة بالإفناء أو المخضّعة بسبب اعتبارها شعوبًا وهُويّات أدنى، إلاّ أنّ ذلك مختلف تمامًا عن تعظيم ماضٍ مبتدع لأسباب في الحاضر(16)· وأخيرًا عرض سعيد اعترافه الآتي: كوني فقدت بلادًا دون أن يكون لديّ أمل باستعادتها قريبًا، ليس يعني أن أجد عزاء في رعاية جنّة أخرى(17)·

وبهذا التصريح نقل سعيد علاقته باللغة والمكان إلى مستوى إشكاليّ يخصّ المنفيّين، وهو أحد أهمّ مرتكزات أدب حقبة ما بعد التجربة الاستعماريّة، فقضيّة الإزاحة عن المكان الأصليّ والارتماء في مكان ناءٍ، وتبنّي لغة أخرى غير اللغة الأمّ للتعبير، وبناء تصوّرات مغايرة، تولّد أزمة خاصّة بالرؤية وبالهُويّة وباستعادة بناء علاقة فعّالة بين الذات والمكان الجديد لتحديد موقع الفرد في العالم، وهذا هو مضمون الاغتراب والمنفى، وكما تذهب أدبيّات ما بعد الاستعمار، فإنّ أوسع ممارسة إدراكيّة مشتركة يمكن داخلها تحديد هذا الاغتراب، تتمثّل في بناء المكان· كما أنّ الفجوة القائمة بين خبرة المكان واللغة المتاحة لوصف هذا المكان تشكّل ملمحًا كلاسيكيًّا واسع الانتشار في نصوص ما بعد الكولونياليّة، وتوجد هذه الفجوة لدى من تبدو لغتهم غير كافية لوصف مكان جديد، ولدى من تتعرّض لغتهم لتدمير منتظم نتيجة الاسترقاق، ولدى من أصبحت لغتهم غير متميّزة نتيجة فرض لغة سلطة المستعمِر· وعن مزج واحد أو آخر من تلك النماذج يمكن أن يصف حال جميع مجتمعات ما بعد الكولونياليّة(18)·

تتخلّل سيرة سعيد إشارات متواترة عن موقعه في الثقافة والعالم وعن لغته وكتابته، باعتبار كلّ ذلك ردًّا على الإزاحة التي تعرّض إليها بوصفه منفيًّا لم يشعر بالانسجام مع العالم الجديد الذي أُزيح إليه، ولم يقطع الصلة بالعالم القديم الذي أُزيح عنه، فبقي عالقًا بينهما وخارجهما؛ لتعذّر الاتصال الكامل بأيّ منهما بصورة صميميّة وكاملة·

بعد أن فرغ سعيد من وصف كلّ هذه المحدّدات عرّج على ذكر الظروف الخارجيّة التي رافقت كتابة السيرة ودفعت بها، وبلورت الأحاسيس المطمورة في تضاعيفها، وكلّ ذلك جسّم عمق الخسارة التي تسبّبت بها التجربة الاستعماريّة وتداعياتها في فلسطين: أحاول أن أكتب ذكريات حياتي الباكرة - أي ما قبل السياسة- وذلك عائد بدرجة كبيرة إلى اعتقادي بأنّها قصّة جديرة بالإنقاذ والإحياء؛ لأنّ الأمكنة الثلاثة التي ترعرعت فيها كفّتْ عن الوجود· ففلسطين هي الآن إسرائيل، ولبنان بعد عشرين عامًا من الحرب الأهليّة، لم يبقَ ذلك المكان المُضجر إلى حدّ الاختناق حين كنّا نقضي أصيافنا محتجزين في ضهور الشوير، ومصر الكولونياليّة الملكية اختفت عام 1952· وذكرياتي عن تلك الأيّام والأمكنة لا تزال حيّة إلى أبعد الحدود، مفعمة بالتفاصيل الدقيقة التي يبدو أنّني احتفظت بها كما لو بين دفتي كتاب، ومفعمة أيضًا بالمشاعر غير المُعَّبر عنها المتولّدة عن أحوال وأحداث وقعت منذ عقود مضت، لكنّها انتظرت كما يبدو لكي يفصَح عنها الآن· يقول كونراد في نوسترومو: ما من قلب إلاّ وتعتمل فيه الرغبة في أن يدوّن مرّة وإلى الأبد رواية صادقة لما حدث، ولا شكّ أن هذا ما حرّضني على كتابة مذكّراتي(19)·

الصفحات