أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 8

هذه الأطر الناظمة لمتن السيرة، حيث ظهر فيها سعيد ملوّحًا لعالم تركه خلفه، جعلته يستعيد بصراحة كيفيّة تشكيل شخصيّته، وتشكيل وعيه الذاتيّ بعالمه الأوّل في الشرق الأوسط، وأوّل ما حرص على التصريح به هو فكرة اختلاق تلك الشخصيّة، تخترع جميع العائلات آباءها وأبناءها وتمنح كلّ واحد منهم قصّة وشخصيّة ومصيرًا، بل إنّها تمنحه لغته الخاصّة· وقع خطأ في الطريقة التي تمّ بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع· فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكّرة، لم أستطع أن أتبيّن ما إذا كان ذلك ناجمًا عن خطئي المستمرّ في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته· وقد تصرّفت أحيانًا تجاه الأمر بمعاندة وفخر· وأحيانًا أخرى وجدت نفسي كائنًا يكاد أن يكون عديم الشخصيّة وخجولاً ومتردّدًا وفاقدًا للإرادة· غير أنّ الغالب كان شعوري الدائم بأنّي في غير مكاني(25)·

ويستطرد بعد هذا التدشين الذي يسبّب الصدمة، منذ أن بدأ وعيي بذاتي وأنا بعدُ طفل، استحال عليّ التفكير بذاتي إلاّ بوصفي طفلاً يملك ماضيًا شائنًا ويتوعّده غدٌ لا أخلاقيّ· فكان أن اختبرت كلّ وعيي الذاتي خلال السنوات التكوينيّة بصيغة الحاضر، مجاهدًا كي لا أنقلب إلى الوراء فأقع في قالب مُعدٍّ سلفًا، أو أن أتهاوى إلى أمام، فأسقط في هاوية الضياع المؤكّد· أن أكون أنا ذاتي كان يعني ألاّ أكون تمامًا في موقعي الصحيح، ولكنّ الأمر لم يقتصر على ذلك، وإنّما كان يعني أيضًا أنّي لم أنعم مرّة براحة بال، بل أتوقّع باستمرار أن يأتي من يقاطعني، أو يصوّب لي أفعالي، أو يجتاح حميميّتي، أو يعتدي على شخصي الضعيف الثقة بالنفس· كنت دومًا في غير مكاني· لم يترك لي نظام الضبط والتربية المنزليّة الجامد الصارم، الذي حبسني فيه أبي منذ سن التاسعة أيّ متنفّس، أو أيّ مجال للإحساس بالذات في ما يتجاوز قواعده وترسيماته(26)·

5· الأبوّة والأمومة: تنازع تربويّ

رسم سعيد المحضن التربويّ الأبويّ الذي اختلق شخصيّته، وهو محضن خرّب البراءة الأولى، وشتّت السويّة الطفوليّة، حينما أخضعها لمعايير أبويّة معدّة سلفًا؛ فلم يكن المهمّ أن ينمو طفلاً على البداهة، ويتفتّح مكتسبًا خبراته بالتدريج من الوسط الأسريّ والاجتماعيّ، إنّما ينبغي عليه أن ينمو ممتثلاً لشروط تلك المعايير الجاهزة، وما كان مهمًّا أن تنمو له شخصيّة خاصّة، إنّما أن ينصاع إلى سلسلة لا نهائيّة من الروادع والنواهي· وبهذه الطريقة اختُرعت شخصيّته، وتحدّدت علاقته بالأمكنة التي عاش فيها، فإلى سنّ الستين، لم أكن أطيق مجرّد التفكير في ماضيّ، خصوصًا ماضيَّ في القاهرة والقدس، وقد احتجبت المدينتان عنّي لمجموعتين مختلفتين من الأسباب: الأخيرة لأنّ إسرائيل حلّت محلّها، والأولى لأنّي مُنعتُ من دخولها لأسباب قانونيّة نتيجة صدفة من أقسى الصدف· ولتعذّر زيارتي مصر خلال خمس عشرة سنة، بين1960 و1975، أخذت أقنّن الذكريات المبكّرة عن حياتي هناك··فاعتمدت تلك الذكريات وسيلة للإخلاد إلى النوم، بعد أن ازداد صعوبة مع مرّ الوقت، الذي بدّد هالة السعادة التي غمرت حياتي المبكّرة، فظهرت فترة أكثر تعقيدًا وعسرًا· فأدركت أنّ استيعاب تلك الفترة يتطلّب منّي حالاً من الصحو والنباهة وتحاشي الوسن الحالم·

والواقع أنّي أحسب أنّ محور هذا الكتاب هو الأرق، وأنّ موضوعه الرئيسيّ هو اليقظة، أي حاجتي إلى الاستذكار الصاحي وإلى التعبير، وهما عندي البديل من النوم· لا، ليس بديلاً من النوم وحده، بل من العطَل والاستراحات وكلّ ما هو في عرف الطبقات الوسطى والغنيّة ضرب من ضروب التسلية، وقد أدرت لها ظهري بطريقة لا واعية منذ حوالي عشر سنوات· ولمّا كان هذا الكتاب أحد الأجوبة عن مرضي، فقد وجدت فيه نوعًا جديدًا من التحدّي، لا مجرد نوع جديد من اليقظة، وإنّما مشروعًا أبتعد بواسطته أبعد ما أستطيع عن حياتي المهنيّة والسياسيّة·

ثمّة موضوعان ضامران في كتابتي هذا الكتاب· أوّلهما، انبثاق ذات ثانية كانت مدفونة لمدة طويلة جدًّا تحت سطح خصائص اجتماعيّة، غالبًا ما تكتسب بواسطة العادة والإلزام، وتنتمي إلى تلك الذات التي حاول أهلي تركيبها؛ وأعني بذلك إدوارد الذي أتحدّث عنه هنا بين الحين والآخر· والثاني، هو الكيفيّة التي أدّى بها عدد متزايد جدًّا من المغادرات إلى زعزعة أركان حياتي منذ بداياتها الأولى· وفي نظري أنّ ما من شيء يميّز حياتي على نحو أشدّ إيلاما- والمفارقة إنّه هو ذاته ما أتوق إليه توقًا- أكثر من تنقّلاتي العديدة عبر البلدان والمدن والمساكن واللغات والبيئات، وهي تنقّلات ظلّت تحرّكني خلال تلك السنوات(27)·

هذه هي الأطر التربويّة الناظمة لحياة سعيد، والنتائج التي ترتّبت عليها، ما برح يفكّكها ليعيد لنا ترميم طفولته وشبابه وعلاقته بالمكان، وهو أمر ظلّ يتردّد في تضاعيف السيرة، وسيقودنا إلى القضيّة التي تخيّم على صفحات الكتاب، عَنيتُ علاقته الملتبسة بأبيه وأمّه، فكما تبلبل وسط تنازعات مكانيّة وثقافيّة في حياته العامّة، فقد عرف التنازع نفسه في أسرته طَوال فترة وجوده معها·

الصفحات