أنت هنا

قراءة كتاب حيفا برقة - البحث عن الجذور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حيفا برقة - البحث عن الجذور

حيفا برقة - البحث عن الجذور

كتاب " حيفا برقة - البحث عن الجذور " ، تأليف سميح مسعود ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

المقــدمة

تشاء المصادفات أن توصلني «التغريبة الفلسطينية» إلى كندا الواقعة في أقصى المعمورة؛ بلاد بعيدة تترامى خلف المحيطات، هي الأطول في العالم، يتسع مداها وتتعاقب أراضيها المغطاة بالثلوج بلا نهاية في رحاب فضاء يمتد شمالاً في المحيط المتجمد الشمالي عند التقاء أطراف السماء بالمحيط.

ورغم بعد كندا عن بلادي وشتات المنافي فإني لاأزال أحتفظ في ذاكرتي بكل مشاهد حياتي الماضية، أسترجعها دائماً من خبايا ذلك الزمن البعيد وأنا أعيش هنا في مدينة مونتريال، أستعيدها بمتعة كبيرة، تتجسد أمام ناظري، وأتنقل فيها من مشهد إلى آخر على امتداد أيام طفولتي الباكرة التي لاتزال ذاكرتي تحتفظ بكثيرٍ منها؛ أعيد تشكيل أمكنة مدن وقرى وحقول كثيرة من بلادي تشع بالدفء، وأعيد تكوين وجوه أناس عرفتهم أيام سنواتي الأولى في مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة، مشدود الأجفان أنظر إليهم، وأراهم تدب حركاتهم على شاطئ البحر وفي الحقول والأزقة وأفنية البيوت، ويتناهى إلى سمعي صدى أصواتهم.. تصل مقاطع أحاديثهم وأغانيهم وحتى همساتهم إلى أذني، تغور في داخلي، وتشق طريقها بهدوء حتى الأعماق، تتشابك وتتفاعل تلك الذكريات مع واقع حياتي في الشتات وتُكون حالة فكرية أحملها وأطوف بها على امتداد مدارات أيامي المتعاقبة.

تستحوذ عليّ تلك الذكريات وتشُدني إلى أتلام جذوري البعيدة، تلوح أمامي دوماً بأضواء متوهجة. وكلما أُقَرِب إلى نفسي أمراً منها بعد مضي عقود طويلة، تدغدغني رغبة عارمة لنقشه في سطوري.. وتجدني أمسك قلمي بين الحين والحين وأنثر على أوراقي حروفي الصغيرة، أكتبها في نظرة استرجاعية حرفاً حرفاً، أجمعها في مقالات متناثرة، أحْيي فيها بعض أيامي الماضية، كنت فيها غير أنا الآن.. كنت فيها في وطني، أنام فيه وأصحو على مقربة من أنفاس والديّ الدافئة.

ومع الأيام تعمقت لدي رغبة الكتابة عن جذور أيامي الماضية، وازدادت بكيفية سريعة متصاعدة في السنوات القليلة الماضية، عندما لفحني وهج ذكرى مرور ما يقرب من ستين عاما على النكبة، اهتممت بالبحث في ذلك الحدث الحزين.. إنها لحظة تاريخية فارقة تستدعي استحضار تداعيات سنين خلت لفها الذل والقهر والانكسار، ومرارة تداعيات الهزيمة في منافي الغربة والشتات.

وبينما كانت الأفكار تدور في رأسي سريعة متدفقة حول النكبة وذكراها، وتتماوج أمام ناظريّ صور من بلادي متزاحمة متلاحمة ؛ دهشت لاهتمام بعض وسائل الإعلام العربية المرئية بالبحث عن جذور تلك الأحداث، وتابعت برامجها بحلقات متتابعة على مدى أيام طويلة فوجدتها عامرة بفحوى أحداث كثيرة لم تحظ بالتدوين من قبل، استعاد فيها مئات الأشخاص، ممن أسعفتهم الذاكرة وهم في غسق العمر على استحضار أحداث من أيامهم الماضية، أشبه ما تكون بشهادات حية متنوعة في حلقات متتابعة، تكشف عن جوانب خفية من حياتهم في قراهم ومدنهم قبل النكبة، وعن إرهاصات نزوحهم، وهم يُخرجون قسراً من بيوتهم حفاة عراة، ويُلقى بهم في مخيمات قصية مظلمة أقيمت على عجل، لتبدأ حياتهم في خيام بالية في بلاد غريبة، قضوا فيها عمرهم على مدار سنوات الشتات الطويلة.

كانت مشاهد الماضي تتلاحق في أحاديثهم، تحدثوا بكل عفوية بألفاظ تجمع بين العمق والبساطة عن قراهم ومدنهم وأهلهم ونضالهم وعن آلام ومآسي تشردهم وهم يلوحون بمفاتيح بيوتهم التي هجروها في عام 1948، وبصور عائلاتهم وبيوتهم ومقتنيات كثيرة حملوها معهم وقت الرحيل.

بساطة اللغة والسرد وتتابع الأحداث بسلاسة ساعدت على شد السامع إلى أحداث قديمة ملفعة بحرارة الماضي، تبدو أشبه بواقع اليوم المعيش كما لو أنها جزءٌ حيٌّ منه مع أنّها ليست منه، حدثت قبل نيفٍ وستين عاماً مضت.

الصفحات