كتاب " ليل تشيلي " ، تأليف روبرتو بولانيو ترجمه إلى العربية عبد السلام باشا ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ليل تشيلي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ليل تشيلي
تقديم
ظهور كاتب متميز من كتّاب أمريكا اللاتينية بعد جيل الواقعية السحرية كان حدثًا تم انتظاره لسنوات عديدة، في الدوائر الثقافية والأكاديمية في العالم الناطق بالأسبانية. فتحوّل روبرتو بولانيو لكتابة القصة والرواية، بعد سنوات طويلة من كتابة الشعر، كشف عن وجود الوريث الشرعي لذلك الجيل الذي ترك بصمة مؤثرة في تاريخ الرواية. ومن هنا كان الاهتمام الأكاديمي والاعلامي بروبرتو بولانيو، فضلا عن معدلات توزيع كتبه التي تضاهي الكتاب الكبار مثل ماريو بارجاس يوسا وجابرييل جارثيا ماركيز.
موت الكاتب المبكر( في الخمسين من عمره) بعد سنوات قليلة من بدء انتشاره وشهرته، وترجمته إلى كل اللغات الأوربية تقريبا، صنع منه أسطورة أدبية وإنسانية. في أحيان كثيرة، كان الاحتفاء والإطراء، يخفي القيمة الفنية والأدبية لأعمال روبرتو بولانيو. هذا الاهتمام الإعلامي بكاتب تم اعتباره الخليفة الشرعي لبورخيس، كان يقابله لحسن الحظ اهتمام أكاديمي ونقدي حقيقي لدرجة أن السنوات القليلة التي شهدت كتابة بولانيو للنثريات، والسنوات التالية لرحيله، شهدت الكثير من الأبحاث ورسائل الدكتوراه في جامعات غربية مختلفة وليس فقط في البلاد الناطقة بالأسبانية.
روبرتو بولانيو يكتب الرواية بلغة شعرية، لغة مكثّفة، محمَّلة بمعان عديدة مختلفة، مستويات قراءاتها متباينة. إلى جانب هذه اللغة الشعرية وقدرته على استخدام موهبته في السرد والحكي لخلق حالة من المتعة والانجذاب في كتاباته، كانت الكثير من موضوعاته وشخصياته لصيقة بالواقع وأحداثه التاريخية والسياسية الحقيقية.
نقطة التفرّد والتميّز في تيار الواقعية السحرية كانت تلك القدرة على التماس مع ما هو يومي، ومزجه، وتضفيره مع أفكار ورؤى ناقدة وتقدمية (حتى لو كانت متضمَّنة، غير صريحة، وبالتلميح فقط). وهو ما يفعله بولانيو في الكثير من أعماله المستندة إلى وقائع، بل التي تعتبر انعكاسًا وتأريخًا لأحداث ووقائع تاريخية حدثت في البلاد التي عاش فيها مثل تشيلي والمكسيك. على الرغم من أن نجوم الواقعية السحرية لا زالوا على قيد الحياة، بينما رحل بولانيو عن عمر خمسين عاما، فإنه أضاف جوانب أخرى فنّية وسردية في أعماله تضعه في المكانة التي يستحقها. أهم هذه الجوانب هو العنف. حضور العنف في كثير من أعمال بولانيو مثل (التعويذة) و(المحققون المتوحشون) و(ليل تشيلي) ليس مجانيًا، بل انعكاسًا روائيًا وفنيًا لعنف حقيقي واقعي موثّق تاريخيًا. إنه ببساطة توثيق ووصف لهذا العنف الذي كان شبه يومي في بلدان القارة الأمريكية اللاتينية أثناء الحكم العسكري والدكتاتوريات.
في هذه الرواية لم تقم أي شخصية بإدانة العنف. فقط، قامت الشخصية الرئيسية بتبرير صمتها بأنها لم ترَ ولم تعرف به. لكن الإدانة جاءت بسخرية وتهكّم غير مباشَرَين على الإطلاق. الإدانة في (ليل تشيلي) لم تكن إدانة للعنف فقط، بل كانت إدانة لكل شيء، المجتمع المحافظ، نفاق الأفراد.. بالإضافة إلى السخرية غير المباشرة، على الأقل تلك التي تطرح في ذهن القارئ تساؤلات عن مدى وعي الشخصية الرئيسية بما يحكي من دون أي اهتمام بالتناقضات. الصفحات الأولى من الرواية تشهد تقديم الشخصية الرئيسية للقارئ: قِسّ، هو ناقد أدبي وشاعر، هذا القس عندما يقع فريسة للحمّى لا يقوم بالاعتراف كما يفترض أن يفعل أي شخص كاثوليكي متدين. بل على العكس، يحاول تقديم التبريرات، يظن أن لديه القدرة والقوة على تذكر الوقائع والحقائق التي تنصفه، في مقابل الافتراءات والاتهامات التي توجَّه له. إنه قسّ ينشغل بتبرير أفعاله ومواقفه أكثر من الاعتراف بخطاياه. لم تكن الحمى فقط. لأنه عندما كان بكامل وعيه أدرك أن أشعاره مليئة بالهرطقات والهذيان، ومع هذا لم (يرغب) في الاعتراف بهذا للقس الذي يعترف له. الشخص نفسه لا يتخلى عن رداء الكاهن عند لقائه الأول (ولا اللقاءات التالية) بالمجلس العسكري الذي تولى الحكم في تشيلي بعد الانقلاب الذي قاده بينوشيه على سلفادور ألليندي. وهو أيضًا نفس الشخص الذي يقرر بشجاعة وحسم، بعد حيرة وتردد، ألا يغيّر زيّ الكاهن قبل لقاء الضيوف المهمين على العشاء في ضيعة الناقد الأكبر في تشيلي.
هذا التناقض أو ازدواج المعايير يقود بالضرورة إلى حالة الازدواج أو التناقض العامة التي تشهدها شخصيات الرواية بدءًا بالشخصية الرئيسية القس أوروتيا لاكروا. الشخصية الوحيدة التي تبدي تناسقا وتماسكا داخليا وخارجيا هي شخصية شاعر تشيلي الكبير، بابلو نيرودا. الظهور الصغير لنيرودا في الصفحات الأولى للرواية يبدو متسقا تماما مع ما يُعرف عنه: شاعر كبير، يناجي القمر. نجم تصل كلماته لسقف التكعيبة أو ما هو أبعد، للسحاب (لكنها لا تصل للسماء، هذا لم يقله القس، لكنه حدد ارتفاعها بالسحب التي وصفها بودلير).
ورغم هذا يشك القس أوروتيا في كون بابلو نيرودا ملحدًا حقًا. ربما يكون ذلك رغبة منه كقس في إنقاذ روح الشاعر الكبير، أو نفياً للآخر. مجرد نفي أو رفض لوجود أشخاص ملحدين، خاصة إذا كانوا محل تقدير واحترام.