أنت هنا

قراءة كتاب علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

علم الأسلوب - مدخل ومبادئ

كتاب " علم الأسلوب - مدخل ومبادئ " ، تأليف د. شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 7

وقبل أن نشرح هذه النشأة يحسُن بنا أن نوضح، بمثال واحد، الفروق التي أشرنا إليها بين علم اللغة الحديث والمعاصر وعلم اللغة القديم:

إذا أردت أن تكشف عن معنى كلمة في معجم مؤلَّف طبقًا لمبادئ العلوم اللغوية القديمة فستجد أن هذه المعاني مسرودة سردًا، دون تمييز بينها، ولو أن بعض مؤلفي المعاجم العربية في عصرنا هذا يراعون ترتيب مشتقات المادة اللغوية بنظام يسهِّل الكشف عن معنى الكلمة التي نريدها: كأن يبدؤوا بالفعل المجرد، ثم الأفعال المزيدة، ثم الأسماء، يكتبون كل صيغة من هذه الصيغ بطريقة ظاهرة. مثلا: كَتَبَ، كاتَبَ، استكتب، كِتاب.. وهكذا. ولكنهم يسردون معاني كل كلمة من هذه الكلمات دون أن يراعوا ترتيبًا خاصًا. مثلا: كَتَب بمعنى قيَّد، وكَتَبَ بمعنى قضى وأمر، وكَتَبَ بمعنى دوّن. لا يهم أي هذه المعاني يأتي أولا وأيها يأتي ثانيا وأيها يأتي ثالثا. فهم ما زالوا سائرين على المبادئ القديمة في علم اللغة، وكل ما أحدثوه هو نوع من التنظيم الخارجي في عرض المادة.

أما لو كان بيدك معجم مؤلَّف على أسس علم اللغة الحديث(9)، إذن لوجدت أن هذا المعجم يبدأ بتفسير الكلمة بالإشارة إلى أصلها في اللغة السامية القديمة (ولو مسترشدًا باللغات السامية الأخرى غير العربية) ثم يرتب معاني الكلمات بحسب تواريخ استعمالها في هذه المعاني، بقدر ما يمكن للباحث اللغوي أن يستنتج اعتمادًا على الطرق المتبعة في تأليف المعاجم، ثم إنه يشير إلى الاستعمالات الخاصة للكلمة، إن كانت قد خصصت ببعض المعاني في بعض البيئات. أي أن علم اللغة الحديث لا يهتم فقط بتاريخ الكلمة من حيث نطقها ومعناها بل يهتم أيضًا بصورها المختلفة واستعمالاتها في العصر الواحد. وما يقال عن المفردات التي تسجلها المعاجم، يمكن أن يقال مثله عن الدلالات والتراكيب النحوية التي يتتبعها مؤلفو كتب "النحو التاريخي". على أن علم اللغة الحديث لم يقف عند هذا الحد في ملاحظة الفروق اللغوية، ولو وقف عنده لأغتنت المعاجم التاريخية ومعاجم اللهجات ومعاجم العلوم المختلفة وكتب النحو التاريخي وأطالس اللهجات عن علم الأسلوب. بل إن علم اللغة بكل ما يستتبعه وراح يسجل الاستعمالات الجارية غير مكتف بالتراث المدون، وجد نفسه مواجها بظاهرة الاختلافات الفردية في استعمال اللغة. ومن هنا نشأت فكرتان بالغتا الأهمية بالنسبة إلى علم الأسلوب، وهما فكرتان وثيقتا الارتباط كما سنرى، ولكن قد يحسن التمييز بينهما لمزيد من التوضيح.

الفكرة الأولى هي التمييز بين "اللغة" و"القول". وكان سوسير هو أول من ميَّز بينهما تمييزًا علميًا دقيقًا ورفعهما إلى مرتبة اصطلاحين لغويين، "فاللغة" هي نظام متعارف عليه من الرموز التي يتفاهم بها الناس. أما "القول" فهو صورة اللغة المتحقَّقة في الواقع في استعمال فرد معين، في حالة معينة، وهذا الاستعمال يطابق النظام العام (اللغة) في صفاته الأساسية، ولكنه يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد، ومن حالة إلى حالة، فلكل فرد من المتكلمين باللغة طريقته الخاصة في نطق الحروف، وإن كانت هذه الطريقة لا تخرج عن دائرة النطق "الصحيح"، وإذا خرجت عن هذه الدائرة كان عُرضة لئلا يفهم الناس عنه، ومن ثم يعد نطقه خطأ. ولكل فرد معجمه اللغوي المتميز، فهو يميل إلى استعمال بعض الكلمات دون بعضها الآخر، وهناك كلمات لا يستعملها على الإطلاق، وإن كان يفهم معانيها، وكلمات لا يستعملها ولا يفهم معانيها، لأنها خارجة عن دائرة تعامله أو وعيه. ولكل فرد طريقته الخاصة في بناء الجمل والربط بينها، فهو يستعمل بعض الصيغ دون بعضها الآخر، أو يستعمل أدوات معينة دون أخرى.

هذه هي الفكرة الأولى التي أدت إلى نشوء علم الأسلوب. وقيمتها لهذا العلم واضحة، فهي تعنى بالسمات المميزة التي تتخذها اللغة في الاستعمال، وهذه السمات هي التي تكون ما سماه أهل الأدب بالأسلوب، وهي ترجع اختلاف هذه السمات إلى استعمال الأفراد للغة، وبذلك يمكن أن تؤدي إلى قيام "علم أسلوب" حديث يناسب هذا العصر الذي يعترف بقيمة الفرد في كل شيء، ولا سيما الإنتاج الفني.

ولكن هذه الفكرة تثير سؤالًا مهمًا وهو: ألا يوجد ضابط لهذه الاختلافات الفردية في استعمال اللغة؟ أو بعبارة أخرى: هل يتخير القائل ما يتخيِّره من طرق التعبير طوعًا لميل ذاتي محض لا يخضع لشيء سوى ذلك النظام العام المجرد الذي نسميه "اللغة"؟ هنا نصل إلى الفكرة الثانية، وهي: أن الاختلافات اللغوية ترجع غالبًا إلى اختلاف المواقف.

فاللغة باعتبارها نظامًا اجتماعيًا تأخذ أشكالا متعددة. فلكل فئة من الناس طريقتها الخاصة في استعمال اللغة. هناك كلمات تشيع بين النساء ولا تشيع بين الرجال، بل إن الاختلافات بين الجنسين تتعدى المعجم اللغوي إلى نطق بعض الحروف من ناحية، وإلى طريقة بناء الجمل من ناحية أخرى (ولعلك تلاحظ من مظاهر هذا الاختلاف كثرة أسماء الألوان ودقتها، وكثرة أشكال التعجب والإفراط في استعمالها). وفئات العمر تختلف أيضًا في استعمال اللغة. فالشباب يستعملونها بطريقة تختلف عن طريقة الشيوخ، والأطفال يستعملونها بطريقة تختلف عن هؤلاء وأولئك. ثم هناك استعمالات ترتبط بالمهن والتخصصات، فالأطباء يتحدثون في ما بينهم بطريقة تختلف عن الطريقة التي يتحدث بها القضاة، وهكذا أهل سائر المهن. ولغة التقارير الاقتصادية تختلف عن لغة الشعر، وهما تختلفان عن لغة العلوم الطبيعية، وقس على ذلك.

وهناك الاختلافات اللغوية بين البيئات الاجتماعية المختلفة. فاللغة المتداولة في البوادي أو الريف تختلف عن اللغة المتعارفة في الحواضر، وفضلا عن الاختلافات بين إقليم وإقليم، أو بين مدينة وأخرى، فقد توجد في داخل المدينة الواحدة اختلافات ذات شأن بين الأحياء المختلفة والبيئات الاجتماعية المتباينة من حيث استعمال اللغة.

ثم لا ننسى الاختلاف اللغوي الناشئ عن اختلاف المناسبات الاجتماعية. فالحديث بين صديقين يجري بلغة تختلف عن الحديث بين رئيس ومرؤوس، وكلاهما يختلف عن خطبة تلقَى في احتفال، بل إن الخطب تختلف فيما بينها باختلاف المناسبات، وقديمًا لاحظ الجاحظ ذلك.

الصفحات