كتاب " تسعة أبحاث منطق فلسفية " ، تأليف ويلارد كواين ترجمه إلى العربية نجيب الحصادي ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب تسعة أبحاث منطق فلسفية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تسعة أبحاث منطق فلسفية
في الذي يوجد
يتعين أحد جوانب الإثارة في المسألة الأنطولوجية في كونها بسيطة. بالمقدور التعبير عنها بثلاثة ألفاظ أنجلوسكسونية أحادية المقطع: "ما الذي يوجد؟" في الوسع أيضا الإجابة عنها بعبارة واحدة "كل شيء"، ولن تجد من ينكر صحة هذه الإجابة. بيد أنها لا تقر سوى وجود ما يوجد. تظل هناك فسحة للاختلاف بخصوص الحالات، ولذا ظلت المسألة مثارا للجدل عبر العصور.
هب أن فيلسوفين، ماكس وأنا، قد اختلفا فيما يتعلق بالأنطولوجيا. افترض أن ماكس يقر وجود شيء أنكر وجوده. سوف يستطيع بشكل متسق مع رؤيته أن يصف الاختلاف في الرؤى القائم بيننا بالقول إنني أرفض التسليم بكينونات بعينها. وبطبيعة الحال، سوف أحتج على قوله ذاك، فما أقره هو أنه ليست هناك كينونات، من النوع الذي يزعم، تستدعي أصلا قيامي بالتسليم بها. بيد أن اكتشافي خطأ في صياغته للاختلاف أمر تعوزه الأهمية، فأنا على أي حال ملتزم باعتباره مخطئا في مذهبه الأنطولوجي.
في المقابل، حين أحاول صياغة ذلك الاختلاف، يبدو أنني أقع فريسة لمأزق. ليس بمقدوري التسليم بوجود أشياء يقر ماكس وجودها ولا أقره، إذا أن تسليمي بوجود مثل هذه الأشياء إنما يتناقض مع إنكاري إياها.
لو صح هذا الاستدلال لبدا أن نصير المبدأ السلبي في أي جدل أنطولوجي يعاني من وضع غير موات، إذ سوف يكون عاجزا حتى عن التسليم بأن خصمه يختلف معه. هذا هو اللغز الأفلاطوني القديم المتعلق باللاوجود. يتوجب على اللاوجود أن يوجد بمعنى ما، وإلا ما ذلك الشيء الذي لا يوجد؟ يمكن وصف هذا التعليم المشوش بلحية أفلاطون التي أثبتت التطور التاريخي أنها خشنة، ولكم أثلمت حد شفرة أوكام.
هذا هو مسار الاستدلال الذي أفضى بفلاسفة من أمثال ماكس إلى عزو الوجود في سياقات كان في وسعهم التسليم بعدم وجود أي شيء. اعتبر بيجاسوس مثلا. لو لم يكن بيجاسوس موجودا، فيما يجادل ماكس، لما كنا نتحدث عن أي شيء حين نستخدم كلمة "بيجاسوس". لهذا السبب، لا معنى للقول إن بيجاسوس لا يوجد. هكذا يعتقد ماكس أنه أثبت بذلك استحالة أن ينكر المرء على نحو متسق وجود بيجاسوس، وهكذا يخلص إلى إقرار وجوده.
الراهن أن ماكس لا يستطيع أن يقنع نفسه بأن ثمة منطقة زماكنية، دانية أو قصية، تضم حصانا مجنحا من لحم ودم. حين يُكره على التفصيل، سوف يقر أن بيجاسوس فكرة في أذهان الناس. لكن قوله هذا يمكننا من الشروع في كشف النقاب عن الخلط الذي وقع فيه. قد نسلم جدلا بوجود كينونة، بل حتى بوجود كينونة متفردة (رغم أن هذا مناف للعقل) هي فكرة بيجاسوس الذهنية. بيد أن هذه الكينونة ليست ما يتحدث عنه الناس حين ينكرون وجود بيجاسوس.
على ذلك فإن ماكس لا يخلط إطلاقا بين البارثينون (هيكل آلهة أثينا) وفكرة البارثينون. البارثينون شيء مادي؛ فكرة البارثينون ذهنية (وفق منظور ماكس للأفكار على أقل تقدير، فليس لدي بديل أفضل أطرحه). البارثينون شيء تمكن رؤيته؛ فكرة البارثينون غير مرئية. إننا لا نستطيع بسهولة تخيل شيئين أقل شبها وأقل عرضة للخلط بين البارثينون وفكرة البارثينون. ولكن ما أن ننتقل من البارثينون إلى بيجاسوس حتى نقع في الخلط ـ ذلك أنه ليس ثمة سبب آخر يجعل ماكس أقرب إلى الوقوع فريسة لإيهام أشد درجات الزيف بيانا وفجاجة من التسليم بعدم وجود بيجاسوس.
هكذا يستبان أن وقوع ماكس في خلط ابتدائي إنما يعزى إلى فكرة وجوب وجود بيجاسوس، المؤسسة على الحكم بأن عدم وجوده لا معنى له إلا حال صحتها. المتفكرون الأكثر حذقا، الذين ينطلقون من ذات المبدأ، يطرحون نظريات في بيجاسوس ضلالها أقل بيانا من نظرية ماكس، ما يجعلها أصعب على الدحض. سوف نسم أحد أولئك المتفكرين "وايمان". يقر وايمان أن بيجاسوس يحتاز على وجوده بوصف كائنا غير متحقق. حين نقول عن بيجاسوس إنه ليس ثمة مثل هذا الشيء، فإننا بطريقة أدق إنما نقر أن خاصية التحقق تعوز بيجاسوس. القول بأن بيجاسوس ليس حقيقيا لا يختلف من وجهة نظر منطقية عن القول بأن البارثينون ليس أحمر. في الحالين نقر شيئا عن شيء لا نرتاب في كونه.
بالمناسبة، وايمان هو أحد الفلاسفة الذي أسهموا في تقويض الكلمة العتيقة الرائعة "يوجد". رغم مشايعته للإمكانات غير المتحققة، فإنه يقصر كلمة "وجود" على الواقع. على هذا النحو فإنه يبقي على وهم قيام اتفاق أنطولوجي بينه وبيننا نحن الذين ننكر سائر أجزاء كونه المتورم.
وفق استخدام الحس المشترك لكلمة "يوجد"، ننزع جميعا إلى القول إن بيجاسوس لا يوجد، نريد من ذلك أنه ليس هناك كائن من هكذا قبيل. لو وجد بيجاسوس لكان في زمان ومكان، ليس لأن كلمة "يوجد" تحتاز على دلالة زماكنية بل فقط لأن كلمة "بيجاسوس" تحتاز على مثل هذه الدلالة. إذا كانت الإشارة الزماكنية غائبة في إقرارا وجود جذر تربيعي للعدد 27، فلأن الجذر التربيعي ليس نوعا زماكنيا من الأشياء، وليس بسبب إبهامنا لاستخدام كلمة "يوجد"1. على ذلك، فإن وايمان، الذي يبذل جهدا غير مجد في إقناعنا، يتفضل بالتسليم بعدم وجود بيجاسوس، ثم لا يلبث أن يصر، خلافا لما نقصده من عدم الوجود، على أن بيجاسوس يوجد. الوجود شيء، يقول وايمان، والكينونة شيء آخر. السبيل الوحيدة التي أعرفها لتعتيم هذه المسألة هي أن نقوم بمنح وايمان كلمة "الوجود".