إنَّ من أصعب الكتابة في علم النفس وجاراته من المعارف هي الكتابة في موضوعين: موضوع المتخلفيّن عقليًا وموضوع المتفوقين عقليًا.
قراءة كتاب نظرية البطل وظاهرة الرأي العام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
عندما ذكرنا الاستعداد واجَهنا سؤالٌ مُحيّر: هل نستطيع ان نصنع أبطالًا، أم أن فقدان الاستعداد يُعيق مثل هذه المحاولة؟ إذا أخذنا بمبدأ المدرسة السلوكية التي تؤمن بإزالة سلوك معين وزرع سلوك آخر أفضل منه أو أعلى مرتبةً منه فإن الجواب يكون: نعم، نستطيع أن نصنع أبطالًا، لكننا على أرض الواقع لا نستطيع ذلك إلّا في حيّز محدود فيجئُ البطل المُصنّع تقليدًا لبطل حقيقي سبقه وهذا هو ما نعني به حالة «التشبه، shaping».
وشبيه البطل لا يُعدُّ بطلًا أصيلًا لأنه يفتقر إلى حالة «الإبداع» التي تفتقر إلى الذاكرة التي تُؤدي دور محاكاة مَنْ سبق. إذنْ لا بُدّ من الاستعداد.
هل تعني ضرورة وجود الاستعداد ضرورة الإيمان بمبدأ «الحتمية» الذي يقول بجاهزية فرد للبطولة وانعدام جاهزية آخر لها؟ إن السلوكية تعني المرونة والمرونة تعني إمكان التغلب على الثوابت والثابت هو جوهر الاستعداد؛ لكنَّ تعديل السلوك، مرة أخرى، لا يعني صناعة بطل.
من هنا تنشأ حاجة أخرى إلى ضرورة فهم موضوع البطولة. للعلم بطل إذا استطاع فردٌ أن يُحدث اختلافًا واضحًا في ركود الحالة العلمية للمجتمع، وللفن بطل إذا استطاع فرد أن يُحدث جديدًا مغايرًا لواقع الفن القائم، وهكذا في كل المجالات الأخرى. كيف يحدث التغيير الذي هو البطولة أو هو واحدٌ من أركانها؟
إن البطل الذي يُسّمى بهذا الاسم هو مَنْ:
1. لا يرجو الرضا الاجتماعي.
2. لا يخشى نتائج الاختلاف مع المألوف.
3. لا يتوخى السلامة الجسدية أو الشخصية القادمة من رضا وقبول الآخرين.
4. لا ينافق.....
5. لا يعتمد لغة المُستّند لأنَّ قوته لا تستند إلى أحادية فيها الخطاب وليس فيها الحوار.
6. يُغيّر الوسائل ولا يُغيّر الغايات.
7. لا يحاكم المستقبل بعين الماضي.
8. يؤمن بأن الحاضر حالة غير ثابتة بثبات الماضي لكنها تثبت إذا عززّتها طوالع المستقبل.
***
لا يوجد بطل ولا بطولة إنْ لم يوجد واقع مريض. والواقع المريض رهين بمكوناته: البيئة والإنسان والثقافة. فالقاضي البطل في كتابة القانون لا يحتاج إلى بطولته في مجتمع يسوده القانون. والسجّان لا وظيفةَ له في مجتمع لا يعرف الجريمة. والشاعر (البطل الشعري) لا يكتب قصيدته في جمهور يعرف ماذا سيقول بحكم رُقيّ ثقافته.
إنَّ علم النفس يسأل: هل خلا كل الأبطال الذين ظهروا في تاريخ البشرية من الأمراض النفسية حتى أصبحوا أبطالًا أم أنَّ بإمكان البطل أن يكون بطلًا ومريضًا في آن؟ انَّ هذا السؤال كبيرٌ جدًا والإجابة عنه تفتح بابًا عريضًا للدخول إلى عوالم واسعة تحتاج إلى تبصرّ ومناقشة.
إنَّ كثيرين من الناس الذين سُجِّلَ لهم أنهم كانوا أبطالًا كانوا يعانون من أمراض نفسية وعقلية وعصبية أو أعراضٍ من هذه الأمراض في الأقّل من التقدير. ومن بين العوامل التي أتاحت لمثل هؤلاء أن يظهروا على مسرح البطولة في أزمان ظهورهم على الرغم ممّا فيهم من علل هو ضعف الناس الذين حولهم وتغاضيهم جبنًا أو جهلًا عن أخطائهم حيث كانوا لا ينظرون إلّا إلى الموجب من بطولتهم بحكم هذا الضعف أو الجبن أو الجهل.
كانت شخصية البطل هي التي تفرض تأثيرها في الناس على الرغم ممّا فيها من مُعيقاتٍ سلوكية. وهنا لا نعني الخصوص في العادات اليومية كالنوم وطريقة الأكل والملبس فالناس في هذا، أبطالًا وغير أبطال، تختلف. إنّما نعني حالة الإدراك وصناعة الحدث والاحتكام إلى النتائج بما فيها من ويلات وانحرافات.
إن بعضَ الأبطال في التاريخ كانَ ذهانيًا (مريضًا بأحد الأعراض العقلية)، فيما كان بعضٌ آخر مصابًا بالكآبة المزمنة أو القلق المفرط، ولكنَّ عنصر الإبداع ظلَّ شفيعًا للتغافل عن هذه الأعراض أو الأمراض فيهم.
فالذهاني، مثلًا، شخص أُحادي النظرة، انعزالي، إلى الحدّ الذي يقودهُ انعزاله وأحادية نظرته إلى إبداع فكرةٍ لا يُبدعها مَنْ هو مُثقَلٌ بذاكرة الاصطفاف مع المجتمع والتقيدّ بطقوسه. وسيعرف القارئ عبر سياق هذا الكتاب الكثير عن هذه الحالات وارتباطها السالب والموجب بمفهوم البطولة.