كتاب " رقصة التنين " ، تأليف مشهور مصطفى ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب رقصة التنين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رقصة التنين
عندما اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان وتوالت فصولاً في حروب صغيرة، ثم تمادت في إسفافها فيما بعد، كنا نمنّي النفس دائماً، في كل يوم، بوجود أمل ما في انتهائها، لكنها لم تنتهِ، لقد انتهت أو قد زُيِّن لنا ذلك، بعد أن أنهت الكثيرين منّا.
حينها، جعلته تلك الحرب مساوماً على ضمائره، بل هي أرغمته على ذلك، ففي الحرب تنقلب الموازين وتتبدّل القيم، وتطفو أشياء الحياة المستورة والدفينة والمخبأة عن قصد، على السطح.
وعندما تطفو أشياء الحياة على سطحها، تصبح الحياة مسرحاً ما بعده مسرح: لقد أرغمته سنون الحرب والسنون التي تلتها، والحرب مستمرة بأشكال أخرى لم تزل، على بيع ضمائره بالتدريج، وفي المزاد العلني في ساحة الوطن الكبرى. إنها ملحمة الضمائر البشرية في ساحتي الحرب والسلم.
أما لماذا وكيف اضطر إلى بيعها؟ فلأسباب لن تخفى على أحد:
في النصف الأول من أيام الحرب، ضاقت به الأحوال، ولم يعد يملك شروى نقير، "لا فوقه ولا تحته" كما يقولون، ولم يعد لديه شيء صالح للبيع. لقد سمع وقرأ وشاهد أخباراً وحوادث عن بيع الكلى والأطراف، لكنه لم يجرؤ على هذه الخطوة اللعينة المقيتة، ولقد أوصى بالتبرّع بأعضائه الصالحة (هذا إذا بقيت كذلك)، بعد الموت، سوى عضو واحد، فإن مات "منتصب القامة" كان به، وإلا فلن ينفع الآخرين في شيء.
وأمضى أياماً بلياليها على هذا المنوال، يرتشف القهوة المستعملة، ويدخن بقايا سجائره مفكراً بطريقة "لائقة" لمتابعة العيش: هل يسرق؟ لا، ليس ذلك بمقدوره، هل يقتل؟ وأنّى له ذلك وهو لا يجرؤ على إيذاء بعوضة تمتص دمه؟ ثم إنه ضد القتل أساساً.
وفي ليلة من الليالي، قفزت فجأة، هكذا دفعة واحدة، صورة مذهلة أمام ناظريه، وبدت له واضحة جليّة؛ لقد خطرت الفكرة بكليتها، يا لك من شيطان، حدّث نفسه، من أين خطرت لك هذه الفكرة الجهنميّة؟ أجل الضمائر.. لماذا لا أبيع ضمائري، تلك التي تكلم عنها جدّي لأبي؟ ولو كان الأمر مجرد مزاح، كما علَّق أبي، فهذه تجارة لم يفكّر بها أحد من قبل، خاصة مع وجود حركة البورصات العالمية، فإن أثمانها قد ترتفع أو تنخفض بحسبها، إنها تجارة لم تخطر ببال "تاجر بندقية" شكسبير، ولا ببال تجار المال الكبار وتجار الدماء والأعضاء البشرية؟
انفرجت أساريره وسرت حركة لرعشة ضاحكة بدأت خفيفة كابتسامة ثم قويت، فقهقه: قه..قـ..ق..قاه.. ثم أخذ مجّة مما تبقّى من سيجارته، واسترخى في جلسته. ثم ساد صمت طويل.
لقد سكنت أوجاع مفاصله، لكن قلبه كان خفقانه قوياً رغم التركيز: تركيز الفهد على فريسته قبل الانقضاض عليها: لقد عقد العزم على بيع ضمائره بالتدريج.
وفي ليلة ليلاء من ليالي كانون، جلس، هو وضمائره حول موقد مليء بالجمر يتسامرون وهم يحتسون الشاي، وكانوا يُسَمّون الجمرات بأسماء العجائز في قريته ليروا إلى أيّها يخلص قبل الآخر، فالجمرة التي تنطفئ تؤشر إلى موت صاحبها قبل الآخرين. ليلتها، ناقشوا الوضع ملياً، بعد أن آلت الأمور إلى التدهور على الصعد كافة، وبخاصة الإقتصادي منها، ووصلوا إلى قناعة أنه بعد الذي صار وجرى، لا بُدّ من التضحية والمبادرة، ولا بد من أن يكون أحد ضمائره في المقدمة، أو يجرؤ على افتداء الآخرين، فينقذهم جميعاً.
وبعد جدال طويل ونقاش مستفيض وأخذ ورد، لم يستطيعوا التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، فاقترح ضميره المستتر أن يجروا القرعة، والذي تقع عليه يكون أول المبادرين..
ودارت اللعبة، فاستقرّت على "المنفصل"، فثارت ثائرته واتهم أن في العملية غش وتزوير ولا بُدّ من إعادتها، وإلا سوف يتقدم بشكوى إلى مجلس الأمن ولجنة حقوق الإنسان، وهو لن يرضى إلا بأن يتم الأمر بإشراف الأمم المتحدة، فطيّبوا خاطر الضمير المنفصل، وأعادوا الكرّة، ودارت القرعة ورست على "المتصل" فلم يقبل، وصاح قائلاً، لو لم نُعِد الكرّة لما رست عليّ.. ثم أن في العملية أيضاً غش، والغش مرتبط بـ من أين نبدأ بالعدّ. صحيح، من أين نبدأ؟! قال معروف في نفسه: إن كل مشاكل الحياة تتعلّق بكيف وأين نبدأ!.
لكن ضميره المستتر، اقترح اللعبة الروسية، باستخدام المسدس الذي لا يحوي إلّا على طلقة واحدة، هنا خطّأ ضميره المستتر، قائلاً: ماذا ينفعني إن قتلت أنت أم أنا أم هو أم هو الآخر؟
المستتر: من يُقتل بالمسدس، نعرف بأن القرعة قد رست عليه.
هنا انتابت ضميره المتصل نوبة ضحك هستيري، حتى كاد أن يغمى عليه، فتعمّد أن يصرخ في وجهه ليتوقف، فهدأ، لكن لا زالت هناك عنعنات في داخله، وتفلت منه ضحكات مكتومة. وأراد ضميره المنفصل أن يغيّر الموضوع، فحكى لهم حكاية زوجته وعيدان الكبريت أول أيام الحرب، فقال اسمعوا هذه السالفة:
"..إقتنى الناس في أيام الحرب عيدان ثقاب للإستعمال، سوداء اللون، فلا تستطيع أن تفرق بينها وبين عيدان الثقاب المستعملة. لكنها كانت سيئة بحيث لا يشتعل منها إلا القليل، وهذا القليل إن اشتعل سرعان ما ينطفئ بسرعة، وكانت زوجتي تضع العيدان المستعملة في علبة كبريت جعلتها خصِّيصاً لهذه الغاية. وفي إحدى المرّات أردت أن أشعل سيجارة لأحد الضيوف، فاستخدمت دون انتباه عيدان ثقاب العلبة المستعملة، ولم أفلح في إشعال سيجارة الضيف بالطبع، وعندما أبدى دهشته، تداركت الأمر وسارعت إلى إخباره، بأن زوجتي كانت تجرّب عيدان الثقاب، فالتي تشتعل تعتبرها جيدة وصالحة للاستعمال فتجعلها في هذه العلبة". وهنا عادت من جديد نوبة الضحك الهستيري إلى ضميره المتصل، واضطر لوضع يده على فمه لإسكاته لكن من دون جدوى، وضغط حتى كاد أن يختنق، فتدخل المنفصل والمستتر وأبعداه عنه.
لم يدرِ، لماذا كان يومها شديد التوتر، سريع العطب، ضيّق الخلق، ربما لأنه قد عقد العزم على بيع أحد ضمائره. وتبعاً للأولوية والقيمة لكل ضمير، ونظراً للترتيب الإجتماعي الذي يتّبعه في حياته اليومية العادية، وفي حياته المادية والأخلاقية والسياسية والثقافية والاجتماعية، كان الضمير المتصل على رأس القائمة، جاعلاً المنفصل والمستتر على لائحة الانتظار. رجاه يومها وتوسّل إليه بأن يجعله في أسفلها، وأن يقدّم عليه ضميريه الآخرين، المنفصل والمستتر، فهو - كما يقول - لم يحقق أمنيته بعد في الحياة.
- ما هي أمنيتك؟ سأله، بنفاذ صبر، وبعد أن جلس معه على انفراد،
- لم أتزوج بعد مثلك، ولم أذق طعم العشق وحلاوة الغزل ولم أرزق بأولاد لطالما تمنيتهم حولي، ثم أني لم أسافر فأشاهد بلاداً أخرى وأتعرّف على ناس جدد، إنني باختصار لم أختبر وأعرف الحياة جيداً، ولم أذق حلوها ومرّها.