كتاب " معادلة الحياة " ، تأليف فاتحة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب معادلة الحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
معادلة الحياة
معادلة الحياة
لم تكن طفولتي تحمل أحزاناً أتأسف عليها. كانت طفولة عادية لكنها أحب فترة إلي، فكثيراً ما أحنّ إليها كحنين المغترب إلى الوطن.
آخر ما ولدت أمي هي أنا، ورثت عنها شدة الخجل وعن أبي شدة الغضب؛ عن كليهما شدة التأثر، فلم أكن كائنا جيداً، إلا أن شكلي اللطيف وحلاوة صباي جعلت معظم من حولي يلاطفني ويمازحني كثيراً، أولهم كان أبي؛ لم يكن يرفض لي طلباً إلا النادر القليل لشدة إلحاحي؛ إذا أخطأت وغضب أشبعني ضرباً وإذا وجدته مسروراً كان نعم الأب. تعلقت به تعلقاً مبالغاً فيه، فلم أكن أطيق الابتعاد عنه، فقد كان مثلي الأعلى في صغري. أشد إخوتي غضباً كان الأكبر؛ كثير الظلم؛ شديد الحب للسيطرة والاستغلال لكن أفضل من يسعى لإرضاء والديّ، والوحيد من إخوتي من كان يلاعبني، وربما هذا السبب الوحيد لتعلقي به في صغري على الرغم من عدم تحملي لطبعه بعد كبري. لم يكن أبي ينصف أمي كثيراًً، كما لم يكن يرفض لها طلباً مادياً لكن دون أن يسلمها المال نقداً، فهو يقول إنّ المرأة لا حاجة لها في المال، ولها أن تطلب ما ينقصها دون المساس بالنقود. أصغر إخوتي لم يميزه شيء بقدر تميزه بالأنانية والحيلة، وبهذه الأخيرة كان سيد الدار؛ فالكلمة الأخيرة تعود إليه بطريقة غير مباشرة لشدة تأثيره على والدي على الرغم من عدم إعارته أدنى اهتمام بوالدي إلا أنه كان أقربنا إليهما لهدوئه وحسن معرفة كسب رضاهما دون أدنى تعب؛ فقد كان ولا يزال أهدأنا وأذكانا وتشابهه في صفاته هذه أختي التي تكبرني بست سنوات؛ كما أنها تحسن الملاحظة ومسايرة الغير دون التنازل عن رأيها، وكنا بذلك نكون عائلة.
كنت التقي به في القطار كل مساء عند عودتي إلى البيت وأينما كان مجلسي كان هو بالقرب منه يظل محدقاً بي، لم يكن يغير اتجاه عينيه إلا إذا وجدني أنظر نحوه، حينها يطأطئ رأسه أو يشيح بوجهه في اتجاه آخر؛ لكن على الرغم من تكرار هذه الصورة يومياً إلا أنه لم يلفت انتباهي لولا أن نبهتني إحدى رفيقاتي، لم يكن لقاء متعمداً كما لم يكن وجوده يضايقني لأنه كان كعدمه على الرغم من كثرة مدح رفيقاتي له، إلا أنني لم أدقق النظر فيه يوماً، إلى أن غاب في أحد الأيام لمدة أسبوعين تقريباً. كنت أسير باتجاه معهدي بعد خروجي من محطة القطار ثم وقفت أنظر واجهة أحد المحلات ولم أحس به إلا وهو يقول:
- أهلاً، لم أرك منذ فترة.. كيف هو القطار؟
استدرت مندهشة لجرأته فوجدته يحمل ابتسامة مشرقة؛ كان صوته مريحاً كما كان يبدو هادئاً وواثقاً من نفسه، أسلوب حديثه كان يوحي أنه مهذب ومن عائلة مرموقة وكذا وقوفه، إذ لم يحاول الاقتراب مني بل باعد بيني وبينه بمسافة دبلوماسية. لم أجبه حينها ومضيت كما لو أنه لم يكلمني. عند وصولي عند باب المعهد نظرت إلى ساعتي فوجدتني متقدمة عن موعد الدخول، لذا اتجهت إلى سوق المحلات مضيعة لبعض من الوقت، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما دخلت إلى أحد محلات الصياغة فوجدته يقف مرافقاً لأحد الباعة حينها تراجعت خطاي إلى الوراء تاركة المحل فرفع صوته قائلاً:
- والله قدر.. إنه مجرد قدر.
لحق بي وقال:
- إذا كان وجودي داخل المحل يضايقك فأنا أغادر.
- أبداًً فقد تفاجأت... ثم إنني لم أكن أريد شراء أي شيء.
ابتسم قائلاً:
- صدقيني إن قلت لك إن كل لقاءاتي بك لم تكن متعمدة لكنني في كل مرة كنت أراك فيها أحس بالارتياح والاطمئنان.
- عادة الإنسان إذا التقى أحداًً مراراً إئتلفه، وكل ما تحس به أنت هو مجرد ألفة لا غير... وأرجو أن لا تحاول الحديث معي مرة أخرى فلست أطيق الرجال.
سرت غير آبهة برد فعله والتحقت بمعهدي.