كتاب " حسين مروة - ولدت شيخا وأموت طفلا " ، تأليف عباس بيضون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حسين مروة - ولدت شيخا وأموت طفلا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حسين مروة - ولدت شيخا وأموت طفلا
لهب يتصفى ويشتعل، حتى النهاية
عرفناه شاباً في السبعين. رفيعاً منصوباً، يبتسم بعينيه أكثر من فمه. يغضي إذا تكلم ويغضي إذا أصغى. بهذا الحياء الذي تصفى من أجيال واستحال تقليداً وإرثاً. وبذلك اللطف الذي يشيع كالحرارة ويرد الجلسة أنيسة حميمة والجليس قريباً أليفاً. وما كان لامرئ أن يدخل دار حسين مروّة وينكفئ عنها إلّا وقد نال نصيباً من كرم أهلها. فهنا يقسم صاحبها جسمه في الماء والخبز، في الشراب والطعام. وهنا تجري الصداقة مجرى الماء والخبز. فأبو نزار العاملي النجفي المناضل لم يخرج من عامليته ولا نجفيته. أضاف من عامليته ونجفيته عمراً وعراقة لما صار إليه. لم يخن أيّاً منهما وإنما كانت حياته أمانة متصلة وإيجاباً متصلاً. فكأنه لا يزال وهو في سبعينياته وحزبيته يحقق وصية أبيه وحلمه. لقد خلق ألوفاً كما قال المتنبي ووفياً. وكان القبول جوابه منذ أن انتزع من طفولته ولذاته إلى أن أقعد مقعد الشيخ، فالمفكر والمناضل. قال نعم كلما امتحنته الحياة أو دعته، فكأنه كان يعلي حياته طبقة وطبقة لا ينكر أياً منها ولا ينحيه. لم يكن الانكسار من خلقه ولا طبعه. لذا بنى كل عهد من حياته بلبنات غيره فارتفعت حياته مرصوصة بكل طبقاتها مشيدة بكل طور فيها. كأن كل طور فيها يؤكد الآخر ويثبته بدلاً من أن ينقصه وينفيه.
***
ترددنا قبل أن نلتقي بحسين مروّة، فالرجل من الشيوخ وهو إلى ذلك من حراس العقيدة، وحراس العقائد كانوا في نظرنا مقطِّبين صارمين حرْفيين وحين تعرفنا إليه وجدناه شاباً في السبعين. فالرجل الذي تعمم في طفولته وأهدرت تحت وقر العمامة طفولته كان ينتصب ممشوقاً رشيقاً في إهابه الأنيق. يبتسم بعينيه كلما صادفتنا عيناه. ويتكلم خفيض الصوت كلاماً مرسلاً يتحاشى الرصف والرص. يتكلم كالمعتذر وهو يغالب حياءه ولربما استعصت عليه عبارة أو تعثّر بها.
لم يكن الرجل من كرادلة العقيدة كما حسبنا، كان في كلامه خيط لعثمة وارتباك أين منهما قطْعنا وحسمنا، وكان فيه تربية وأدب كنا نظنهما ذلك الحين من غير صفات المناضلين. وكان فيه حنو لم نكن نحسبه لأهل العقيدة. ولعلنا أحببنا الرجل وشعرنا أن السهرة في مجلسه تبقى على رسلها بل وتزداد بحضوره سهولة ويسراً.
كنا نقرأ عليه بعض ما نكتب. أذكر يوماً كنا فيه عنده وأحدنا يقرأ وقد سلخنا من السهرة هزيعاً أو أكثر، كان يصغي رفيقاً حذراً، يزن الإيقاع والصوت وتلمع عيناه لكلمة وتبش لأخرى. بل كان وحده الذي انحنى بكليّته للإصغاء وانقطع له. أما باقونا فكانوا بين النفثة والرشفة يصغون للكلام يأتيهم من بعيد ويأتيهم من قريب ينسونه ويعودون إليه. أذكر أن «أبو نزار» بشّ للشعر وأثنى عليه وصاحبه، فعل ذلك بكرم وإيجاز كأنما يخشى على الشاعر أن يجرح تواضعه. قليلون أولئك الذين يغتبطون بالسماع اغتباط أبي نزار، فهو من رعيل كان الكلام فاكهته ورخاءه والسماع رياضته. من رعيل كان أفراده يقيمون في الكلام ويكبرون فيه، ذلك يذكّرني بسهرات عاملية تجتمع فيها الحلقة حول الشاي وتأخذ من لونه وبخاره وسخونته ألواناً ووهجاً ودفئاً، وكان الناس ينتقلون بين القصائد ويأخذهم سرى الشعر ومعراجه إلى مناطق وحواضر وعواصم وأسواق. يسمعون بين النفثة والرشفة ويطيّبون ويستعيدون وما كان لأحد أن يعرف كيف تتصل هذه المتعة اتصال الليل إلى أن يتنفس الفجر على السمّار والسّهارى.
أذكر كيف كان في الحشد والمهرجان (*) يجلس ـ آنق ما يكون ويسهر إلى أواخر الليل مغتبطاً خفيفاً رفيقاً قلّما يبادر إلى كلام لكنه يصغي بعينين تبشّان للكلام وتتابعانه ببسمة وحلم. كان في وجهه يومذاك رفرفة سعادة واكتفاء لا أظن أننا نراها إلّا على وجوه الأطفال.
كان العشاء في ساحة القصر والناس إلى الموائد، وعلى مصطبة في الناحية جلس عازفون ووقف راقصون. وكان أبو نزار أول من ترك المائدة وصعد إلى المصطبة ووقف يتابع الموسيقى بقدميه وقامته، كان يرقص وحيداً مكتفياً بنفسه وتوقيع قدميه وفرحته التي انتظمت نفسه وجسده، ما كان أقرب وجهه إلى الرضى وأدناه إلى السعادة والقبول والتحية. لكأنه يزداد ماءً وطراوة كلما أسنّ واكتهل، وما كان لبياض شعر أحد أن يردّك إلى الشباب، بمقدار ما كانت تفعل لمّة أبي نزار البيضاء كأنه وهو يمضي في العمر يسلك إلى يفاع دائم، أو كأن فصول حياته خرجت عن تربيتها فبدأت بطفولة جافة وشباب شحيح ولم تنضر وتمرع إلّا في شبابها الثاني.