رواية " يوم غابت الشمس"، هذه الرواية: على مشارف المدينة القديمة، وقفت طويلاً، وقفت أتأمل واسترجع بذاكرتي صور الماضي القريب لهذة المدينة التي أنهكتها الحوادث وأنهكها تطاول الزمان، بيوتاتها الفخمة هرمت وشاخت واستحال بعضها إلى خرائب.
أنت هنا
قراءة كتاب يوم غابت الشمس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يوم غابت الشمس
مع الضياء الأول لفجر أحد الأيام من صيف عام 1905 هبط شيخ في الستين من العمر منحدراً ترابياً شديد الإنحدار عند الباب الصغير(1) شمال مدينة الموصل، وهو منحدر جانبي موازٍ للنهر تماماً غير ذي سياج فتبقى حافته الخارجية المطلة على الشاطيء مبعث رعب لكل من يقترب منها. هبط ذلك الشيخ ممتطياً حماراً أبيض يجر خطواته بكل حذر والرجل يشد بيديه برذعة الدابة مخافة السقوط. وما إن وصل الشاطيء المتسع الممتد بين مرقد الشيخ يحيى بن القاسم وقره سراي(2) حتى ترجل ونزع قِرَبَ الماء الفارغة من فوق البرذعة وسار نحو الماء.
وبعد بضع خطوات غاص في الماء حتى حزامه بعد أن حسر سرواله الأبيض وثناه إلى ركبتيه فكشف عن ساقين عضليّتين رفيعتين بردتا قليلاً في الماء الذي بدأ يبعث ضوضاءَ خافتة حولهما هو بالكاد كل ما أستطاع سماعه مع قرقرة الماء الداخل إلى القربة(3). وبعد هنيهة سحب تلك القربة بكل هدوء إلى الشاطيء حيث يقف حماره الهادي ثابتاً لا يتحرك وكأنه مستمر في نعاس ليلته الماضية، وقد تدلت سلسلته الحديدية من رأسه إلى الأرض فصنعت أثراً متعرجاً على الرمل الرطب.
لفّ الشيخ الذي وخَطَ الشيب لحيته وشاربه تلك السلسلة حول رقبة الحيوان ثم أمرّ يده ذهاباً وإياباً على تلك الرقبة المنتصبة كأنه راضٍ عنه ثم حمل القربة بعد أن ربط فمها وألقاها فوق برذعة الحمار، وهمَّ بربطها إليه لكنه توقف …
- من ذلك الفتى؟ واستقرّ نظره أعلى الربوة، ثمة شاب لا تستبان صورته يطل من علو، شامخ القامة، مباعداً ساقيه راسخاً في وقفته وقد اطبقت يداه على عصاً ممتدةً على عرض بطنه.
ثَبَّتَ الرجل قربته بحبل سوس(4). ثم ادار وجهة الحمار الكهل وأخذ الحيوان ينتزع خطواته إنتزاعاً تاركاً حفراً صغيرة دائرية على الأرض الرملية حتى وصل إلى المنحدر.
وحثّ الرجل حماره على الصعود بينما راحت يداه الخشنتان تسندان القِرَب(5) التي مالت بكل ثقلها إلى الوراء بينما توترت قدما الحيوان الخلفيتان وهما تدفعان الأرض.
وقبل أن يصل الرجل بحماره إلى ذروة المرتفع هبط الشاب معترضاً طريق الحمار، وقف في منتصف الطريق الذي لا يتجاوز عرضه ستة أمتار واتضحت صورته للسقاء على أتمِّها، فتى لا يتجاوز الثامنة عشر حاسر الرأس، أسمر الوجه، يطوِّق خصرَه حزام جلدي عريض فوق دشداشةٍ رثّة لا يتجاوز طولها منتصف ساقيه، وقف يلوِّح بعصاه والحمار يواصل سيره تحت تهديد وصرخات صاحبه، وعندما اقترب اكثر شقّت العصا طريقها في الهواء مُصفِرةً أمام وجه الحمار فأغمض الحيوان عينيه وأدار رأسه متجنباً العصا وتوقف مكانه ولم يَعُد بامكانه التحرك، فجُن جُنون الرجل المُسِن وصرخ بأعلى صوته:
ـ أتقِ الله … أتقِ الله.
فجاءه الجواب ضحكة مدوية.