كتاب " ألقيت السلاح " ، تأليف ريجينا صنفير ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ألقيت السلاح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ألقيت السلاح
قبل الحرب
عندما أفتح عينيّ على الدنيا لأول مرة في مستشفى القديس شارل، أجدني أبكي ـ أمي كذلك. لقد أَبلغوها للتَّو خبر سوء: «إنها بنت». خاب سَعْيُها للمرة الثالثة. تسعة أشهر من الانتظار، تسعة أشهر من الأمل، والنتيجة؟ لا شيء! فيوم ذاك، لم تصبح إي؟لين (velyne) أم ريجينا (Régina) ، أو والدة ريجينا. ينبغي عليها إذن أن تعيد الكرّةَ من جديد، لا لشيء إلّا لتثبت لحماتها أنها تستطيع أن تُنْجِب الصبْية. وها هي تعيد الكرة. وللمرة الرابعة على التوالي، تلد بنتاً. فكيف لها والحالة هذه، أن لا ترى في الأمر شؤماً أصابَتْها به عين شريرة تتسلّط عليها؟ وكيف لها أن لا تبكي وهي التي لم تنجح في مسعاها كما كان يُؤْمل؟ لدى عودتها إلى المنزل، وفدت العائلة وتقاطر الجيران يقدمون لها المؤاساة، قائلين لها إنه ينبغي عليها أن تعتبر نفسها محظوظة لأن بناتها الأربع يتمتعن بصحة جيدة، وهن طبيعيات البنية، وإن الفتاة نعمة تدخرها لآخرتها. ولكنها أجابت بمرارة من لا تجد عزاءً في المؤاساة: «تبقى الفتاة تعيسة طِوال حياتها. فهي يوم تولد، تولد همومها معها».
وُلدتُ في العام 1962، في أحد أيام شهر نيسان/ ابريل، تسعة عشر عاماً بعد الاستقلال، وثلاثة عشر عاماً قبل بَدء الحرب، أي في منتصف الطريق بين السلم والحرب. عُنِي جدي باختيار اسم لي، إذ لم تكن والدتي في حالة نفسية تسمح لها بالتفكّر في الأمر. ريجينا هو اسم أول امرأة في عائلة صنَيْفِر، وهو كذلك إسم عمتي، راهبة تخَلَّت طواعية عن اسمها هذا لدى انضمامها إلى أَخَوِية راهبات المحبة.
«وُلِدَت ثالثة بناتنا، ريجينا، في الحادي عشر من نيسان/أبريل من العام 1962، في تمام الساعة السادسة والربع مساء». تلك كانت الجملة التي كتبها والدي على ظهر باب خزانة غرفة النوم، وهو الذي كان يقوم مقام سجلنا العائلي؛ لعله كان، لدِقته، حرِيّاً بالثقة أكثر من السجل المدني. غالباً ما كنت أُسْأَلُ في صغري: «أي رقم أنت؟» فأجيب: «أنا البنت رقم ثلاثة». كانت المرتبة الثالثة لا تزال أمراً محتملاً. أما أختي، فلم تكن بِوَفْرَة حظي، فهي احتلت المرتبة الرابعة، ومَنْ بلغ مثل هذا المستوى في التراتبية، لم يعد يُحْسَب له الحساب في عائلتنا.
وُلدتُ يوم أربعاء، وهو ما كانت أمي تردده دوماً، لأنها احتفظت من الحدث بذكرى أليمة للغاية. فلو سلَّمنا بما كان يفيد به سجلنا العائلي، فإن إي؟لين قد أنجبت بناتها الأربع، ريتا (Rita) ، راشيل (Rachel) ، أنا وداليدا (Dalida) ، في يوم أربعاء، وهو ما لم يكن يسعها تقبُّلَه. ولمحاولتها الخامسة، بدأت تشعر بالانقباضات الأولى، يوم أربعاء. فراحت تجهد وتقاوم، عَلَّها تنجح في تجاوز ذلك الأربعاء اللعين، ولكن دون جدوى. على كل حال، لم يَدُم الترقّب المصحوب بالتوتر طويلاً، إذ عندما حضرت الممرضة تَزُّف لأبي بُشْرى ولادة صبي له، ردَّ عليها بما اعتاد عليه من حِس الدعابة الساخرة: «إنك ولا شك تخطئين يا سيدتي، فأنا لا أُنجب إلّا البنات».
وهكذا نجا الشرف، واستُعِيد الفخر، إذ أصبحت إي؟لين أم يوسف، في ذلك الثامن عشر المشهود من شهر نيسان/ إبريل من العام 1968. فبعد أن أنجبت أربع بنات، نجحت والدتي أخيراً في إنجاب الصبي، وهو، والحق يقال، ما لم يكن بالأمر السهل، لأنها ولكي تقوى عليه، وَجَب عليها استِحْلاف كل القديسين لسنوات أمضتها في رجائهم، والإفراط في الصلاة، ورش المنزل بالماء المقدس، وتقديم الهدايا والقرابين لسيدة الحدث، مريم العذراء عليها السلام، وإحراق البخور عَلَّها تطرد بأنفاسه عين الشؤم التي تصيب بالشر. أخيراً، وُلِدَ لعائلة صنيفر أول صبي من الجيل الجديد. أَسْموه يوسف، وهو إسم جده، ووزعوا الحلوى على أبناء الحي. كان الجيران، والأصدقاء والفضوليون يتوافدون إلى المنزل، لتأمل هذا الإنجاز بإعجاب وافتتان من لا يصدق التغير في مسار الأقدار. وكانت توقعات ما سيكون عليه طفل اليوم في الغد، تتضاعف مُتَّسِقَة مع ما تُؤْثِرهُ كل عائلة: «مَن سيشبه يا تُرى؟»؛ لعل في أنفه دِقَّة أنوف آل صنيفر، ولكن جبينه الضيق الصغير هو سليل آل القارِح. إبهاما قدميه يشبهان تماماً إبهامَيْ خاله فؤاد؟ أيكون صنيفراً حقيقياً؟ أم سيشبه عائلة أمه؟» وكان أبي، الذي لم يصدق بعد ما جرى، يجيب: «لم ننظر إلى وجهه بعد».
كان كل شيء يفرّق عائِلَتَيْ والديّ: التراتبية الاجتماعية كما أنماط العيش. كان والدي يحلم أن يصبح محامياً، فهو كان بِكر عائلة وُلِدَ لها خمسة أولاد. ولكنه اضطر إلى وضع حد لتحصيله العلمي لينصرف إلى العمل مع والده في النِجارة، فيساعده في صناعة النعوش. غير أنه كان يتمتع بشغف عيش طبيعي جعله يُقْبِل على الحياة بفرح، ومواجهة الأمور أياً كانت بتفاؤل من لا يَهوى التعقيد. ألم يكن يصنع من الأكاليل التي كانت عائلات الموتى تُغدِقُها على النعوش، باقات وافرة الأزهار، بوفرة أحزانهم، يهديها لمعشوقته في كل مرة يلتقيان فيها، فيضمن بذلك افتتانها به لِرِقَّة حاشيته وظُرْف غَزَله.
كان منزل العائلة يقع في الحدث، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في منتصف الطريق بين الكنيسة والمقبرة. كل المواكب الجنائزية تَمرُّ من هنا. ومع الكنيسة، كانت عائلة صنيفر تقيم علاقات جِوار طيبة، إذ كانت جدتي تُلَمِّع وتُشَمِّع المكان المقدس، وتحضِّر خبز القُربان، وتنظِّف ملابس الخوري، أملاً منها في أن يقوم الرب برعاية منزلها وعائلتها. وكانت تقضي في الكنيسة وقتاً أطول مما كانت تقضيه في البيت، مما كان يثير سُخط جدي واغتياظه. وفي يوم أحد، وإذ طال انتظاره لحلول موعد الغداء، قام فَحَضَّر الطعام بنفسه، وقصد الكنيسة، ففرشه أمام بابها، كما لو كان يتحضر لتناول وجبته خلال نزهة في الهواء الطَّلق. وبقيت النادِرة مشهورة في بلدتنا، تُمَلَّح بها الأحاديث والسهرات، لوقت طويل.
كان لهذا الجوار تأثيره الواضح على والدي، الذي انضم إلى حركة الكشَّاف، وقد تولّى خوري القرية إدارتها. كُثُر هم الذين كانوا يدعونه «الرِّيس عبدو» حتى آخر أيامه.
كان والدي مؤمناً بالله، ولكنه لم يكن يهوى ممارسة الشعائر الدينية بانتظام، فهو لم يكن يرتاد الكنيسة إلّا في مناسبة عقد قِران، أو معمودية، أو دفن. وخلال القدّاس، كان يولي اهتمامه للثرثرات فيصغي لها، أكثر مما يوليه للكلام المقدس. أما بالنسبة إلى والدتي، فهي كانت على عكسه تماماً، إذ لم يكن يجوز أبداً المُزاح مع الله. فكانت تحضر القدّاس كل صباح قبل أن تفتح أبواب متجر العائلة. فكل يوم، وبعد أن تقرأ في ثَفَل فنجان قهوتها ما تخبئه لها الأقدار، كانت تزور الكنيسة لتَسْتَوْثِقَ السيدة العذراء همومها وقلقها، قبل أن تخرجَ منها دامعة العينين في أغلب الأحيان، كما لو أنها تحدثت للتّو مع صديقة ودودة، بل قل مع طبيبة نفسانية، مع فارق وحيد، وهو أنّ الجلسة في رحاب الله كانت مجانية.