كتاب " ألقيت السلاح " ، تأليف ريجينا صنفير ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ألقيت السلاح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ألقيت السلاح
يُحكى في ذلك الجبل أن كل درزي يموت، لا يلبث أن يتجسَّد في مولود درزي جديد، يذكر ما عاشه في السالف من «الأجيال». كان من شأن هذا الأمر أن شغل بالي وأثار حيرتي وفضولي في تلك الأيام، لا سيما أنني ما كنت لأجد من يشرحه لي. فطِوال ذلك الصيف، لم تلتق عائلتي بجيرانها الدروز إلَّا عَرضياً. ومع أنّ المسيحيين والدروز كانوا يتساكنون في هذه المنطقة، إلّا أنهم كانوا يحرصون على اجتناب الاختلاط ببعضهم البعض. فأنا، من الدروز، لم أعرف إلّا صاحب دكان البقالة في الحي، حيث كنت أشتري السكاكر والمرطبات، والذي كان يثير الرعب في نفسي، بِقَلَنْسُوَته البيضاء، وسرواله الأسود الفضفاض، وشاربيْه الكثَّين المرفوعَيْن إلى أعلى. وغالباً ما كنت أتساءل عندما أراه، ما إذا كنت في حضرة الأمير الدرزي فخر الدين الذي حكم جبل لبنان في القرن السادس عشر، والذي سبق لي أن رأيت صورته في كتاب التاريخ. ولعل طائفة الموحدين الدروز هي الأكثر سرية من بين كل المجموعات الطائفية في لبنان، حيث تبقى خَفِيَّة على العديد من اللبنانيين.
في ذلك الصيف، وفي تلك القرية، عرفت أول حب لي. كان اسمه نبيل. أذكر أننا يوم كنا نتنزه بين الكروم قطعنا على نَفْسَيْنا عهداً بالزواج وبإنجاب العديد من الأطفال.
وفي يوم من أيام شهر آب/أغسطس، إضطررنا إلى الرحيل نهائياً عن الشبانية، مع أنّ الجبل بدا لي آنذاك هادئاً آمناً، لا يعكر صفوه شيء، فالناس تتحضر لموسم قِطاف العنب والتفاح. كنت أخشى العودة إلى بيروت وإلى المدرسة حيث سيبدأ العام الدراسي، كان والديّ غائبين في معظم الأوقات، يقصدان المدينة كل يوم للعمل في المتجر. وفي احدى الامسيات، وبينما كنا ـ أنا وشقيقاتي وشقيقي ـ ننتظر في المنزل عودتهما، أقبل علينا الجيران مسرعين، لعلمهم باكتشاف جثة درزي قتيل في بلدتنا الحدث؛ فقررت الميليشيا الدرزية الانتقام لمقتله، ونصبت الحواجز بغرض اختطاف المسيحيين في هذا القطاع من الجبل. رأى أحد المارة رجالاً مقنّعين يوقفون كلاً من والدي ووالدتي، ويحملانهما على الترجُّل من السيارة. لم يُعرف ما حصل لهما بعد ذلك، ولم أجرؤ على طرح السؤال، في وقت شُغِل فيه الجيران بإقفال الأبواب والنوافذ بإحكام، قبل أن يجتمعوا في الدار. أخذت ريتا، أختي الكبرى، يوسف، الذي لم يكن له من العمر إلا سبع سنوات، في حضنها، تُطَمْئِنُه؛ حبسنا أنفاسنا، ننتظر خبراً. أصبح الهواء في المنزل خانقاً. جلست على الأرض، مسندة ظهري إلى الحائط، محدقة بشعاع النور المنبثق من تحت الباب، أترقّب خيالاً، آملة أن يكون خيال والديّ. ورحت أتساءل في نفسي: هل لا يزالان على قيد الحياة؟ هل سأتمكن من رؤيتهما مجدداً؟ لقد اعتقدا أنهما يعملان على حمايتنا يوم جاءا بنا إلى هذا الجبل، بعيداً عن خطوط التماس والقصف المدفعي. ولكن الحرب اسْتَشْرت وامتدت حتى بلغت هذه الأعالي. بدا لي الإنتظار طويلاً، لا نهاية له. أريد أن أجدهما؛ أريد رؤيتهما؛ إنني أخشى الأسوأ، فالخوف يتدفق من أعماقي كحمم بركان، وقد كان حتى ذلك الوقت، يُعَشِش في قعر ذاتي، قبل أن يطفو فيها جاذباً معه كل ما كَبَتُّه من مخاوف.
وأخيراً توقفت سيارة والديّ أمام الباب، وأبصرت، بارتياح كبير للغاية، أبي المكفهر الوجه، وأمي المرتجفة. إنهما على قيد الحياة، سالمين، ولكنهما كانا على قاب قوسين أو أدنى من الموت إعداماً. لقد تعرَّف عليهما أحد الرجال المقنّعين، فأطلق سراحهما، وهما يدينان له بحياتهما. لم يتعرف والدايّ على هويته، ولكنَّ عينيه الخضراوين خلف القناع كانتا مألوفَتَيْن لديه. وفي صباح اليوم التالي، غادرنا نهائياً مَصْيفنا في الشبانية. لم أرَ مجدداً تلك القرية. لم أر نبيل ولم أستطع أبداً أن أبوح له بالحزن الذي اعتصر قلبي لابتعادي عنه.
وبعد بضعة أشهر، قُتِل كمال الحاج، فيلسوف الأمة اللبنانية، بضربة فأس هشَّمت رأسه، في الشبانيّة. في تلك الحقبة، كان يراودني حلم باستمرار، فيقلق راحتي، إذ كنت أرى فيه نفسي وأنا أجهد في البحث عن أبي لأجده جثة هامدة مقطوعة الرأس على سطح منزلنا. واستمر هذا الحلم يراودني لفترة طويلة؛ ولدى أول شعور بالخوف، كانت ذكراه تعاودني فترمي بي فريسة للاضطراب والقلق.