أنت هنا

قراءة كتاب ألقيت السلاح

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ألقيت السلاح

ألقيت السلاح

كتاب " ألقيت السلاح " ، تأليف ريجينا صنفير ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

غزْوَة السلاح

حتى سن الثالثة عشرة، عشت في المدرسة مللاً مطواعاً شَلَّ تفكيري. ولكن حدثاً غير متوقع قلبَ كل شيء رأساً على عَقِب. لا أستطيع أن أنسى يوم الأحد ذاك، الذي وافق فيه الثالث عشر من شهر نيسان/ أبريل من العام 1975.

ففي ذلك اليوم، عقدت العزم على الالتحاق بالكشَّاف، ورحت أتخيل نفسي أقضي ليلة في كَنَفِ خيمةٍ، نُصِبَت في الطبيعة، بعيداً عن عائلتي. يا للمغامرة الكبرى! زرت بصحبة أهلي مارغو (Margo) رئيسة الكشّاف، وقد كانت صديقة لوالدي، آملة منها أن تقوم بتسجيلي، فأغدو واحدة من أعضاء فريقها. كانت الطبيعة في ذلك اليوم الربيعي الهانئ والمشمس، تتفجَّر حياة وضياءً، إذ فاحت أشجار اللّوز، والليمون، والبساتين المكسوة بالخضرة الطرية النديّة، بعطرٍ يحمل إلى النفس السلام والسكينة. ولكن انضمامي إلى الكشاف لم يشكل في ذلك اليوم محور الحديث الذي، عوض ذلك، دار حول رجال حملوا السلاح، وباص كان ينقل فلسطينيين، وكتائبيين، وقتلى وقعوا أمام الكنيسة. كان والدي يسرد تلك الأحداث بصوت مختلف عن ذلك الذي عهدته لديه، إذ كان يرشح قلقاً وثورة. وفي الأيام التالية، ضجَّت ضواحي بيروت بمواجهات مسلحة، ما لبثت أن امتدت إلى مناطق أخرى من الشمال إلى الجنوب.

التحقت بفتيات الكشَّاف في الأيام الأولى من فصل الربيع. وبالكاد سُنِحَت ليَ الفرصة لتعلم بعض الأغاني والاطلاع على تاريخ بادن باول (Baden Powel) ، حتى سقط حلمي بالتخييم كلياً، في شهر حزيران/يونيو من تلك السنة، في ظل جولات العنف ومحطات وقف إطلاق النار التي كانت تنذر بالمنحى الخطر الذي بدت «الحوادث» وكأنها تتخذه.

لم نكن لنصدق بعد أنّ الحرب قد اندلعت، إذ كانت كلمة «حرب»، غير معقولة في بلاد لا يتكبد فيها المواطنون عناء إقفال أبوابهم بإحكام، في بلاد درج الناس على نعتها بسويسرا الشرق، لجبالها المُلْتَحِفَة بالثلوج. فلبنان ـ كما كنا نقرأ في كتاب الجغرافيا ـ وطن يحمل رسالة التعايش، بلد يشكل مفترق طرق بين الشرق والغرب؛ فمن أقام في بلد كَلُبنان يطيب العيش فيه، لا يؤمن بالحرب. ومع ذلك، فإنّ العنف في تزايد، وتقدم واضطراد كل يوم. كل يوم تتكاثر الحواجز المسلحة، والطرقات المقطوعة. كل يوم، تُسمع الطلقات النارية، ويُحكى عن الرصاصات الطائشة والقتلى.

يقع منزل العائلة في الحدث، وهي بلدة يقطنها المسيحيون الموارنة بشكل خاص. فمهدي هو المسلم الوحيد في الحي، وهو عامل شيعي، يعيش مع عائلته وأولاده السبعة في غرفة واحدة. تفصلنا عن مخيم الفلسطينيين، القائم في برج البراجنة، ثلاثة أو أربعة كيلومترات فقط. أذكر أننا درجنا على ارتياد المطعم لتناول الغداء العائلي، على شاطىء البحر. كانت سيارتنا تمر بمحاذاة المخيّم، حيث شعارات المنظمات الفلسطينية تجتاح الأحياء. كنت أرقب وراء تلال الرمل والأسلاك الحديدية، وبين الأكواخ الوضيعة الفقيرة، المبنية من أحجار الباطون وألواح الصفيح، وتعالت فوق سطوحها هوائيات أجهزة التلفزيون، وجود رجال يعتمرون الكُوفية: إنهم الفدائيون. كانوا يثيرون هلعي وذعري بوجوههم المقنعة. كنا نلتقي بهم وأسلحتهم المرفوعة في طريقنا، وقد تكَدَّسوا في الشاحنات، مشهرين بنادقهم. ننظر برعب إلى مواكبهم العسكرية وهي تخترق طرقات بيروت، حيث يتبخترون فيها كالمنتصرين الغالبين. إنّ فقر مخيمهم لا يؤثر فِيَّ. فبحسب الشائعات، فهو يعج ويزخر بالثروات، والفلسطينيون أَبْقَوا أنفسهم في حالة من عدم الاستقرار الطوعي، لكي يستمروا باستجلاب المساعدات وتحصيل الأموال. يُحكى كذلك أنّ مخيماتهم المُنْشَأة حول كل من بيروت، ومدينَتَيْ صيدا وصور الجنوبيتين تأوي أربعمائة ألف فلسطيني، في بلد بالكاد يعدّ ثلاثة ملايين لبناني.

نشأت مع الاعتقاد الراسخ بأنّ المنظمات الفلسطينية، ولا سيما منها منظمة التحرير، تمثل تهديداً حقيقياً للبنان. كان والدي يلوم الفلسطينيين لأنهم لم يعرفوا كيفية الدفاع عن أرضهم، ولأنهم كانوا مُجْحِدين بحق لبنان، الذي استضافهم على الرحب والسعَة، عندما طُرِدوا من أرضهم عامَ 1948، ثم من الأردُنّ عامَ 1970، إثر أحداث ما اصطلح على تسميته بأيلول/سبتمبر الأسود (8): «الفلسطينيون، قال يوماً والدي، يستغلون ضيافتنا عندما يدَّعون البطولة التي يَفْخَرون بها، فيطلقون العمليات الفدائية الهجومية ضد اسرائيل، بينما يدفع اللبنانيون غالياً ثمن ردات فعلها الثأرية واجراءاتها الانتقامية التي تطالهم في الصميم». كان والدي يعيد السبب في مأساة لبنان إلى اتفاقية القاهرة التي تم عقدها سنة 1969، والتي أعطت المقاومة الفلسطينية الحق بالتسلح والتصدّي لإسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. فكان من شأن هذا الوجود المسلح أن تسبب بزرع بذور الشّقاق والارتياب بين اللبنانيين الذين انقسموا إلى معسكرين إثنين: المعسكر الموالي، وقد ضم المسلمين خصوصاً، والمعسكر المعارض ذات الغالبية المسيحية. وسرت شائعات تنبئ باستعداد الفلسطينيين لإخراج المسيحيين من لبنان بغرض الحلول محلهم، وذلك بمساعدة كل من الأميركيين، والدول العربية، والأحزاب اليسارية والمسلمين اللبنانيين. فخاف المسيحيون من أن يُلقى بهم في البحر. مما كان يثير قلقي، إذ لم أكن لأجيد السباحة.

بحلول الصيف، قرّر والديّ كعادتهما في كل عام الهروب بنا من عبء حرارة بيروت المضنية. وفي وقت كان فيه العنف ينتشر شيئاً فشيئاً، أمضينا ذلك الفصل في الشبانِيَّة، وهي قرية تقع في منطقة جبل لبنان، حيث كان يطيب للبيارتة الاصطياف، فجعلوا منها مَقْصداً، شأنهم في ذلك شأن أمراء الخليج العربي التّواقين إلى الحرية والهواء المنعش العليل والملذّات. كان منزلنا يقع في أعالي الشبانية، فيتوسط كروم العنب، ويتفيأ في ظلال شجرة تين ضخمة. صحيح أنّ والدتي لم تكن لتطمئن لتسلقي هذه الشجرة الملعونة، التي شنق يهوذا الإِسْخَريوطي نفسه يأساً على واحدة من أغصانها. غير أنني، وبالرغم من تحذيراتها المِلحاحة، فإنني غالباً ما كنت أجد لنفسي، على غصن منها، مجلساً متّسعاً بما يكفي ليضمن لي ملجأً مريحاً، أنصرف فيه إلى تذوق التين الأسود الناضج النديّ، وإلى مراقبة مَلْقى شقيقاتي بالعشاق، وهو ما كنت أجد لي فيه لذة ماكرة، واستراق النظر إلى جيراننا من الدروز، إذ لم أكن أريد أن أفوّت على نفسي فرصة مؤاتية كهذه أرى فيها عن قرب ما يمكن أن تكون عليه عائلة «مُتَقَمِصّة».

الصفحات