كتاب " في مهب الثورة " ، تأليف الفضل شلق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب في مهب الثورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مهب الثورة
وبــاء
ينتشر الوباء مع فقدان المناعة. تتلاشى المناعة مع سوء التغذية. ينتج سوء التغذية عن الفقر. الفقر هو ما تنتجه الرأسمالية بأعداد متزايدة في فترة أزمته. عند الانهيارات المالية والاقتصادية يزداد الفقراء فقراً، ويزداد عددهم، ويزداد الأغنياء غنًى وينخفض عددهم.
في العصور التي قبل الرأسمالية، كانت الأوبئة تنتشر في أعقاب قحط وانخفاض المحاصيل أو في أعقاب حروب مدمرة، حيث تأخذ الطبقات الرفيعة والدولة من إنتاج الفلاحين ضرائب عالية لا يبقى بعدها للفلاحين ما يسد الرمق. لا ننسى أن في تلك الأيام كان الفلاحون في أحسن الأحوال يعيشون متوسط أعمارهم بين 30 و35 عاماً. بينما كان القادة والكتبة ورجال الدين والأمراء بجميع أشكالهم يعيشون أكثر من 65 عاماً كمعدل.
حتى عندما كانت الأوبئة تنتقل من أمكنة بعيدة، فإنها ما كانت تلاقي انتشاراً إلا في بيئات انخفضت فيها المناعة نتيجة سوء التغذية وارتفاع الضرائب بما يترك للفلاحين ما لا يفي بحاجاتهم الغذائية. هذا ما تحدثنا به كتب التاريخ.
الآن، ينتشر الوباء من المكسيك إلى الولايات المتحدة، عبر الحدود، ومنها إلى أوروبا وبقية العالم مع وسائل المواصلات السريعة (الطيران). تعلن الإدارة الأميركية ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها من الدول والمؤسسات حالات طوارئ، رغم أن عدد الإصابات ما يزال قليلاً. يبدو أنهم يعرفون حالة الناس الفقراء أكثر مما يعلنون، وأكثر مما نعرف نحن، القراءَ العاديين. فما نعرفه هو فقط ما يصل إلينا من الجهات الرسمية الحاكمة.
من الجار الفقير للولايات المتحدة من المكسيك يأتي الوباء، وقبله جاء المهاجرون للعمل بأجور ضئيلة، وجاءت المخدرات، وجاءت العصابات المسلحة. يقال إن الوباء الآتي من المكسيك ترعرع في مزرعة كبيرة للخنازير تملكها شركة أميركية كبرى؛ والمعروف أن المهاجرين يحتاجهم الاقتصاد الأميركي، وأن المخدرات يقبل على استهلاكها الأميركيون، فهناك طلب عليها كما على الخدم المكسيكيين؛ أما العصابات المسلحة فهي موجودة على جانبي السياج الفاصل بين البلدين. الجار الفقير تلاحقه دائماً لعنة الفقر. هو مصدر الثراء للجار الغني.
ويقول أهل المكسيك إن الوباء جاء من الولايات المتحدة ويقول أهل الولايات المتحدة، إن الوباء جاء من المكسيك، كلاهما صحيح. فقد ترعرع الوباء في مزرعة كبرى تنتج صناعياً الخنازير في ولاية من ولايات المكسيك برأسمال أميركي، الشركة الأميركية اسمها سميث فيلد ومزرعتها في ولاية فيراكروز في المكسيك. ما يحدث في هذه المعامل - المصانع أن الحيوانات (الخنازير في هذه الحالة، ويمكن أن تكون الطيور وأي مخلوق آخر في المزرعة الرأسمالية الكبرى) تتوالد ميكانيكياً وتنمو بالتغذية الإجبارية تحت ظروف تعذيبية، حيث يوقف الحيوان بجانب الآخر ولا مهمة له سوى أن يأكل ويفرز، وهو واقف بجانب الآخر في ظروف حارة تنتج الإرهاق الذي يؤدي إلى إفقاد المناعة وتغير mutation الجينات بين الحين والآخر. لذلك يتم التلاقي والتوحد بين جينات الإنسان والحيوانات التي كانت محافظة على انفصالها وعدم اختلاطها في الماضي. فهل تنتج الرأسمالية ظروف نقص المناعة لدى الحيوانات كما كان الفقر ينتجه في الإنسان العامل في العصور الماضية، وهل يؤدي الأمر إلى أوبئة مشتركة بين الإنسان وحيواناته المنتجة صناعياً؟
في عالم التقدم البيولوجي تُجري المختبرات تجارب على الخلايا الجذعية لأغراض «علمية». تبقى التجارب علمية حتى إشعار آخر، وتصير تجارية بعد ذلك. تعدَّل الحيوانات والنباتات جينياً من أجل زيادة الإنتاج وزيادة الربح للشركات التجارية التي تملك المختبرات وتشرف على الأبحاث العلمية. كل ذلك باسم عالم جديد شجاع.
صحيح أن العالم الجديد شجاع في اكتشافاته وتطبيقاتها، لكنه عالم جبان شديد النمطية في الاستهلاك لدى معظم الناس. لا يستهلك الإنسان في هذا العالم إلا ما هو على الموضة، سواء كان الموضوع لباساً أو مأكلاً أو مركوباً أو فناً أو رقصاً أو غير ذلك. يستهلك الإنسان ما يسوَّق له عبر شركات الإعلان. ما يسوَّق له يقرر حاجاته، ويقرر أيضاً كيفية تلبية هذه الحاجات. يصير الإنسان الحر الطليق المستمتع بالديمقراطية والسفر والخيارات الأخـرى، أشـبه بالحيوانات المنتجَة صناعياً وجينياً.
يتلاشى العالم القديم، لم نعد نعرفه إلا من خلال الكتب والوثائق. نستخدمه لاصطناع الهُوية فقط. يدجننا العالم الجديد، تخضعنا القوى المسيطرة على العالم الجديد. نخضع لها بإرادتنا، لأن هذه القوى تصنع إرادتنا. نتساوى في العالم الجديد ونتشابه ولا نختلف إلا في ما يراد لنا أن نختلف فيه. حتى الهُوية القابضة تراد لنا. إذا كان كل منا متعدد الهُويات، حتى إشعار آخر، وتعدد الهُويات هو أساس الحرية، فإن ما يراد لنا هو الاقتصار على هُوية واحدة تقبض على الهُويات الأخرى وتلغيها، أو تضمها ولا تفرج عنها إلا حين اللزوم. يفقد الإنسان تعدديته في ذاته، يفقد حريته، ويصير ذا بعد واحد. الإنسان ذو البعد الواحد جرى التنبؤ به على يد المؤلفين منذ خمسة قرون، والعالم الجديد الشجاع جرى التنبؤ به منذ أكثر من ثمانية عقود.
العالم الجديد الشجاع، حيث الإنسان ذو بعد واحد، هو عالم الرأسمالية المجنونة التي تنتج الأزمات، الواحدة بعد الأخرى. وبعد كل أزمة تأخذ الإنسان إلى هاوية جديدة يتدافع إليها الجميع كما البقر العطشى في أفلام الغرب الأميركي. في هذه الأفلام يتدافع البقر وراء السراب، وهي لا تدري أن السراب هاوية تقع فيها.
01/05/2009