كتاب " كوبا الحلم الضائع " ، تأليف د. عبد الحسين شعبان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب كوبا الحلم الغامض
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

كوبا الحلم الغامض
تمهيد
«يا الله ما أجمل هذه الأرض؟!»
هذا الهتاف هو الذي ردّده كريستوفر كولومبس (Christopher Columbus) (ولد العام 1451 وتوفي العام 1506) عندما كانت سفينته «سانتا ماريا» ترسو عند الشواطئ الكوبية في 27 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1492. لا أدري كيف استعدتُ ذلك الهتاف وردّدته مع نفسي بمرح غامر وأنا أترجّل من الطائرة التي حملتني من باريس إلى هافانا، منتقلة بـي من قارة أوروبا إلى قارة أميركا، مجتازة المحيط الأطلسي برمته، وهو البحر الذي كان المؤرخون والرحّالة العرب يسمونه «بحر الظلمات» .
يومها حسِبَ كولومبس أنه وصل إلى إحدى جزر «الهند» باستخدامه المتوافر من علوم عصره، بما فيها علوم العرب الجغرافية والفلكية، حول مدار الأرض، لكنه كما اتـّضح أن هذا المدار أطول بكثير مما كان يُقدّر، وأن عالماً فسيحاً يمتدُّ إلى أقاصي الغرب ما زال ينتظره إنْ أراد الوصول إلى مبتغاه.
لقد كانت المحطة الكوبية، بعد رحلة مضنية، المفتاح الأول للعالم الجديد، الذي كان اكتشافه دهشة جديدة على المستويات العلمية والاجتماعية والاقتصادية، ومنذ ذلك التاريخ سيستخدمه القراصنة طريقاً لتجارة الرقيق من قارة أفريقيا السوداء إلى قارة أميركا الشمالية والجنوبية.
إذا أمعنا النظر في خارطة كوبا الجغرافية، فسنرى أنها أقرب إلى تمساح عائم وسط البحر ذنبه يقترب من شواطئ فلوريدا، أما رأسه فيتجه إلى الأعلى ليقترب بأنفه من سواحل هاييتي، ويطلّ من فوق جزيرة جامايكا. ويطوّق جزيرة كوبا التي تبلغ مساحتها 11860كم2 ساحل، يبلغ امتداده نحو خمسة آلاف كيلو متر، محاط من شماله بعدّة جزر صغيرة، تكاد تشكّل سياجاً للجزيرة، أو أرخبيلاً من جزر يضم نحو 13 خليجاً، ويبلغ عدد سكان الجزيرة 11 مليوناً (أحد عشر) غالبيتهم من أصول إسبانية، لاسيّما بعد إبادة السكان الأصليين، كما أنّ اللون الأسمر يعكس التركيب المتعدد لأصول الكوبيين، الذين خضعوا للاستعمار الإسباني لقرون.
كوبا أرض منبسطة فيها الكثير من الوديان والخلجان، وفي شرقها تنتصب سلسلة جبال السيرامايسترا الشهيرة، مهد الثورة، أما مناخها فيمتاز بالدفء طوال فصول السنة بالرغم من الرطوبة العالية، ومطرها استوائيٌ وبخاصة في أشهر الخريف.
بعد شوق طويل ومتابعة مضنية وقلق عميق على التجربة الكوبية، جاء الوقت لكي أشدّ الرحال إلى كوبا؛ وكنت أحسب أن الرحلة تأخرت أكثر ممّا ينبغي، وهو ما سأذكره لاحقاً. وكنت أستحثُّ نفسي مستعجلاً على الزيارة، مستحضراً علاقتي مع زملاء وأصدقاء كوبيين قدامى وجدد.
بعد مرض الرفيق فيدل كاسترو ، شعرت أن الأوان قد آن لتحقيق الزيارة وذلك لكي أطّلع على التجربة ميدانياً على الأرض قبل أن يطرأ عليها أي تغيير، ولكي أكوّن الصورة الواقعية قبل التغيير لا بعده، فضلاً عن أنني على الرغم من تلمّسي حجم التحدّيات المباشرة وغير المباشرة التي تواجهها كوبا، إلّا أن رؤية التجربة من الداخل تختلف عن رؤيتها من الخارج، ولن يكون ذلك «واقعياً» وقريباً من الحقيقة بعد رحيل الرجل، ولعلّ الأجدر والأفضل رؤيتها بوجوده، بكل ما لها وما عليها.
وكان قلقي يزداد ومخاوفي تتسع، بسبب ما كانت تنقله وسائل الإعلام، لاسيّما غير المشجعة للتجربة الكوبية، فضلاً عن بعض قراءاتي وانطباعاتي الشخصية وتبلور رؤيتي النقدية الخاصة بشأن التجربة الاشتراكية بشكل عام، حيث كنت قد عشت في السبعينيات في براغ وزرت معظم البلدان الاشتراكية زيارات عمل وأخرى شخصية، ولذلك كنت أدرك أن انهيار المنظومة الاشتراكية، الذي شاهدناه، والذي حضرتُ فصله الأخير بمحض المصادفة في تشيكوسلوفاكيا وبرلين، إنما كان موضوعياً قد حُفرتْ أساساته منذ وقت طويل، وحسب سارتر كانت البلدان الاشتراكية تبدو من الخارج قلاعاً محصّنة، لكنها خاوية من الداخل، الأمر الذي أدّى إلى انهيارها المدوّي.
قد تختلف التجربة الاشتراكية الكوبية عن غيرها من التجارب، لاسيّما مسارها وكاريزما قياداتها، لكنها من حيث الجوهر اتّخذت الطريق الذي سلكته معظم البلدان الاشتراكية، من توجهات وخطط وبرامج، وما زاد في معاناة السكان هناك هو الحصار الأميركي الذي استمر منذ خمسة عقود من الزمان، والذي فرض نفسه بقوة على التجربة وعلى الإنسان، خصوصاً في ظل الحرمانات والعذابات التي عاشها. وبالقدر الذي كان المواطن الكوبـي يسمع خطابات قيادته عن الرفاه والسعادة والوفرة المادية، كان يعيش حياة فقر وفاقة وقهر.
وبالرغم من أن الكوبيين صبروا طويلاً وتحملّوا كثيراً فلا يزال أمامهم الكثير، وليس هناك حتى الآن، مع استمرار الحصار الأميركي، وسائل واقعية ومقنعة لإنهاء معاناتهم، أو التخفيف عنها؛ وحتى الآن لم تتبلور بعد حلول ممكنة تأخذ، بنظر الاعتبار، قدرة الإنسان على التحمّل، وتبتدع أساليب جديدة للموازنة بين مشاعر الأمل بحياة سعيدة ومرفهة وحريات وافرة وتقدم اجتماعي وإنساني في إطار عملية تنمية شاملة، وبين بؤس الواقع وشحّ المواد الضرورية وضيق اليد.
وقد واجهني الكثير من الأسئلة المحرجة والحارقة خلال زيارتي إلى كوبا، وازداد قلقي وتعاظم، إزاء تناقضات اعتبرتها خصوصية كوبية، وتساءلت مع كريم مروّة في انطباعاته «يوميات مثقف عربـي في جزيرة الحرية كوبا» المنشورة في صحيفة النهار اللبنانية، في 25 حزيران (يونيو) 2007: «من أين يأتي حب الشعب لقادته كاسترو وجيفارا وسان خوسيه مارتيه الذي حوّله الحصار الأميركي إلى الفقر والفاقة، وبين مشاعر الرفاهية التي وعدتهم بها الاشتراكية وفيدل كاسترو؟».
وكانت الأسئلة تكبر كلما قارنت التجربة الكوبية، بالتجارب الاشتراكية التي عرفتها، والتي انهارت بسرعة خاطفة وتهاوت أحزاب وأنظمة حسبناها منيعة وقوية، بين ليلة وضحاها، وتساءلت من سيكون بعد كاسترو وهو قد تجاوز الثمانين، وهل أنَّ رهان الرفاق الكوبيين على بعض انتصارات أميركا اللاتينية كافٍ؟
لم أكن قد قررت نشر كتاب عن كوبا، فابتدأت بنشر حلقات في إحدى الصحف العربية، ولعلّ ما كنت أفكّر فيه هو نشر ثلاث أو خمس حلقات، لكن المقدمة والمادة انسابت معي وتوالت الحلقات حتى بلغت 24 حلقة، وعندها توقفت لأضع لمسات لكتاب عن كوبا، وفيه رؤيتي بعد 50 عاماً من تأثري وحماستي القديمة وحرصي وقلقي الحالي، فضلاً عن رؤيتي الانتقادية الشفافة، حيث وضعت له عنواناً هو «الجنة والاغتراب» لما تتضمن تلك الجزيرة من مفارقات محببة، ومن ثم ارتأيت عنواناً آخر هو «كوبا الحلم الغامض» لما ينطوي تحته من أسرار وخبايا.
والعنوان على ما أظن فيه من الدقة في المضمون والموسيقى في اللفظ وسلاسة التعبير؛ فقد حاولت من خلاله أن أجمع بين تناقضين، ففي هذه الجزيرة الجميلة الخضراء، اقتراب من الجنة بما تملك وتشعر، واغتراب بسبب الحصار الأميركي وشحّ الموارد وتأثيرات نظام العقوبات وانعكاساته كوبياً على مستوى الفرد والجماعة، لاسيّما في جوانبه النفسية.