كتاب " في وادي الوطن - مقاربات في شؤون لبنان وشجونه " ، تأليف حبيب صادق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب في وادي الوطن - مقاربات في شؤون لبنان وشجونه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

في وادي الوطن - مقاربات في شؤون لبنان وشجونه
المثقفون ومنابر السلطان (3)
كنت حريصاً، غاية الحرص، على الاحتفاظ لنفسي بقرار اتخذته، ذات عام بعيد نسبياً، والتزمت حكمه بدقة، في ممارسة عملية ثابتة ترجمة لخيار ذاتي رأيتني أنحاز إليه عقب سلسلة من التجارب المتعاقبة. من هنا آثرت كتمانه اعتقاداً مني بأنَّه شأن شخصي محض لا يصح الجهر به احتراماً لخيارات الآخرين، المثقفين بخاصة، ونأياً بنفسي عن الادعاء بصواب خياري دون خيارات غيري.
لقد حافظت على أمانة الكتمان طويلاً إلى أن طالعني مقال الصديق الياس خوري الأسبوعي في موقعه، الأثير عندي، من ملحق "النهار" الصادر في 13 تموز 2003 فوجدتني، فور الفراغ من قراءته، أميل إلى البوح بما كتمته طويلاً في سريرتي، لما تولَّد عندي من اقتناع بضرورة الخروج من الخاص إلى العام.
ومن باب التوضيح أرى لزاماً عليَّ العودة إلى ذلك القرار الذي اتخذته، ذات عام، والتزمت حكمه طويلاً، فأقول بأنه يتصل، اتصال النتيجة بسببها، بمضمون الموضوع الذي انعقد عليه المقال، الآنف الذكر، وهو تحديد الموقف من حمَّى التسابق الذي تلجأ إليه أنظمة الحكم العربية لاستدراج المثقفين العرب إلى المشاركة في أعمال المؤتمرات أو الندوات أو الاحتفالات التي تُكْثِر من الدعوة إليها، على مدار السنة، في مواسم متصلة الحلقات.
حيال هذا الأمر وجدتني محكوماً باتخاذ موقف محدَّد، فكان ذلك القرار الذي رتَّب عليَّ فريضة الامتناع عن الاستجابة لأية دعوة توجّه إليَّ من قبل إدارة، سافرة أو مقنَّعة، من إدارات هذا النظام العربي أو ذاك. وأزعم، في هذا الصدد، أنَّ هذا الموقف المحدَّد لم أتخذه تأثراً بمشاعر ذاتية أو ميلاً إلى نزعة رفض طفولي، بل اتخذته استناداً لجملة من الأسباب الموجبة بلغة أهل القانون.. فقد توافرت لديَّ هذه الأسباب، تباعاً، من حصاد تجارب شخصية خضت غمارها، في مواسم ضيافة سخية، ملبياً دعوات متفرقة موجَّهة إليَّ من قبـل إدارات رسمية، تحمل عناوين أدبية أو ثقافية أو سياسية، وتقوم في خدمة الأنظمة، في سبعة أقطار عربية من ذوات الشهرة الواسعة النطاق في حرفة الإكثار من عقد المؤتمرات والندوات والمهرجانات، تحت عناوين شتى تستدعيها المناسبات، وما أكثرها، أو تقتضيها أولوية طارئة من أولويات هذه السلطة العربية أو تلك..
في ضوء ما تحصَّل لديَّ من حصاد تلك التجارب الشخصية، ظهرت لي بجلاء مقاصد السادة الدّاعين إلى هذه الاجتماعات المختلفة، فهي لا تعدو كونها، في معظمها الطاغي، سبلاً ميسَّرة لاقتناص شهادات بليغة من وفود المدعوين، بتزكية النظام العربي الدّاعي، وتغطية مدروسة على ما يقترفه من آثام في حق الوطن والمواطن، وما يرتكبه من انتهاكات في حق حرية الثقافة والمثقفين وفي حق المبادئ والقيم، وغالباً ما تقود التغطية المدروسة، إلى الإشادة بمآثر السادة الحكَّام العرب، على كمال صنيعهم، في صيانة الحريات وتعزيز الديمقراطية وتطوير حركة التنمية والانتصار لحقوق الإنسان؟؟!
لعلَّني لا أقع في المغالاة، إذا ما ذهبت إلى القول بأنَّ الغالبية العظمى من تلك المؤتمرات، التي دُعيت إلى الاشتراك في أعمالها، كانت منطوية على تلك المقاصد السلطوية التي لا تستهدف إلَّا إخفاء معالم الاستبداد للنظام السياسي السائد، والعمل على تجميل صورته، أمام عدسات الإعلام، بأحدث مبتكرات صناعة التجميل الدعائية المتطورة... ولكن مهما افتنَّ المخرجون في تظهير الصورة المتوخاة، خلال اشتباك الحناجر، فسرعان ما يفتضح أمرهم، إبَّان صوغ البيان الختامي، إذ لا مفر، أمامهم، من "تجميل" النص بالقليل أو الكثير من توجيهات السيد الدّاعي "السديدة" ، ومن الإتيان على ذكره بما يليق، من عاطر الكلام، بمقامه العالي، وهنا لا مندوحة، أمام المدعوين، من القيام بواجب الشكر والامتنان لسيادته على جميل رعايته، وكريم ضيافته، وعلى نبل مسعاه من أجل خير الأمة، وإعلاء شأنها بين الأمم!!
في ضوء تجربتي الخاصة، على محدوديتها، تراءت لي، بجلاء، أنَّ تلك الاجتماعات الاحتفالية، بمعظمها الغالب، هي مجرد أسواق للكلام المجاني الرائج، وهي تنعقد بكثرة، هذه الأيام، على منابر السلطات، في العواصم العربية، حيث تجري، عادة، مراسم الافتتاح والاختتام برعاية السادة الحكّام أو من ينوب عنهم من أفراد البطانة المقربين...
تلك هي الصورة التي تكاملت عناصرها، تباعاً، في نظري، لأسواق الكلام العربي المجاني الأمر الذي دعاني إلى القيام بفريضة الامتناع عن الخوض في المزيد من التجارب الخائبة...
وهنا أقف قليلاً وأستوقف لأستعيد إشارة مرَّ ذكرها تفيد بأني لا أدَّعي الصواب لموقفي هذا دون غيره، برغم أني التزمته بأمانة، ولمَّا أزل على العهد. ولعلَّ هذا الأمر يشفع لي، عند المثقفين تعييناً، في مساءلتهم عن موقفهم الحقيقي من هذه الظاهرة المتفشية في دنيانا العربية، أعني ظاهرة المؤتمرات الثقافية الاحتفالية التي تتسابق على ترويجها أنظمة الحكم المعروفة لا رغبةً منها في معالجة الواقع العربي مما يكابده من أوصاب مستفحلة، ومن أزمات مستعصية أو في تعزيز مناعته الداخلية في مواجهة التحديات الخارجية متمثلة في استهدافات مشروع الهيمنة الأميركي ـ الصهيوني...، بل رغبةً منها في استيعاب صوت المثقف وامتصاص غضب المواطن المقهور، ليسعها، بالتالي، صرف الأنظار عن رؤية قبائحها الناجمة عن طبيعتها الاستبدادية وعن تبعية انقيادها الذليل لمراكز القوة في الخارج...
لا أتوجَّه بهذه المساءلة إلى مثقف السلطة، وهو حاضر، دائماً، في كل عصر ومصر، بل أتوجَّه، تحديداً، إلى المثقف النقدي الذي يستفزه ويستثير غضبه تخاذل النظام العربي وتساقطه حيال ما جرى ويجري على أرض لبنان وفلسطين والعراق من ضروب العدوان الهمجي لقوات الاحتلال الأميركية والإسرائيلية .. وحيال ما يتهدَّد الوجود العربي والثقافة العربية من مخاطر التطبيع والسطو والهيمنة.
وإذ أتوجَّه بالمساءلة إلى هذا المثقف، تحديداً، فلكونه يجسِّد، في يقيني، إرادة الرفض لكل محاولات السلطة المستبدة لاستيعاب صوته النقدي كما يجسِّد روح المقاومة في مناهضة الثقافة الاحتفالية الذيلية في سياق مناهضة حكم الاستبداد والتبعية.
انطلاقاً من ذلك ألا يصح القيام بتوجيه دعوة إلى إبرام عقد جماعي بين مناصري الثقافة النقدية ينصُّ، في متنه، على مقاطعة المؤتمرات وأخواتها التي تدعو إلى عقدها هذه الإدارة الرسمية أو تلك من إدارات النظام العربي، وذلك تعبيراً ريادياً مجزياً عن الموقف المبدئي من هذا النظام العربي المدان؟
ترى أليس في مضمون هذه الدعوة ما يستدعي، في الأقل، نقاشاً ديمقراطياً مجدياً؟