كتاب " وتساقطت أوراق الخريف " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب وتساقطت أوراق الخريف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

وتساقطت أوراق الخريف
مغامرات
نزلت أميرة من الحافلة، تحمل بيدها اليسرى حقيبة نسائية لا يدري ما فيها، وكان يحسبها فارغة، فليس من عادتها أن تستعمل مساحيق الزينة والأصباغ الوردية، واكتفت بما وهبها الله من بشرة سمراء وشعر مجدول، اقتنعت بذلك غاية الاقتناع، ورضيت عن نفسهـا أشد الرضى، ووثقت بسحـرها وجاذبيتها حتى وصلت إلى أقصى غايات الثقة، وأضفت على ذلك كله هدوءاً متواصلاً ورشاقة في الحركة واقتصاداً في الحديث وعذوبة في الكلام. استجمعت سلاحها وتابعت خطواتها وقطعت الشارع. اقتفى قلب سلمان ونظره أثرها من خلال النافذة، وتعلقت عيناه بيدها المواجهة التي أمسكت بها مع الحقيبة كتاباً أخضر متوسط الحجم مستطيل الشكل، لم تبلغ الاستطالة به حدودها، ولم تتوافر فيه مواصفاتها، والصفة القريبة إليه أنه إلى التربيع أقرب منه إلى الاستطالة، وقد كتب العنوان فوق الحافة السفلى بخط أبيض، وفوقها صورة لرجل أصلع ذي أنف طويل وعينين فيهما شيء من الغور، أحسَّ فيه وسامة، فحسده لا لوسامته، بل لمرافقته إياها، وقد رأى أصابعها على وجهه، وفكر أنها ستحمله مرة على صدرها وستكون عيناه مواجهتين لترائبها وأنفه يشم نهديها، وإذا بدأت في القراءة فسوف تنظر إليه، أخذت الغيرة تأكل قلبه من صاحب الصورة "وليم شكسبير"، ما إن بات بينه وبينها إلّا أمتار معدودة حتى غاب شكسبير عن ناظره، ابتعدت عنه عندما قطعت ذلك الدرب الضيق الذي ينام معظم النهار تحت ظلال الجسر من الجهة المواجهة للشمس، ومن الجهة الثانية يحجزه الجامع عن أرض الله الواسعة، لا يعلم شيئاً عن المسافة التي تقطعها حتى تصل إلى الدائرة، وبعد بُرهة تنطلق الحافلة فيصبح كل شيء بينه وبينها مجهولاً إلّا عبارة ((إن شاء الله)) التي سمعها منها عندما وعدته باللقاء قبل نزولها.
بقي سلمان أياماً منهمكاً بالعمل، لا يفكر في اليأس، ولم يجد الأمل إلى نفسه طريقاً رحباً، يدخل في عمل متواصل حيناً، ويبقى عاطلاً في فراغات متعاقبة، يقضيها بأحاديث فارغة والبحث في مجالات غير مثمرة، وبين هذا وذاك سلام من صديق وسؤال من آخر وضحكة مع أخرى ومزاح مع ثانية. وعندما تشرق الأرض بنور ربها في كل صباح، يحس بالأمل يملأ قلبه، ويحسب أن اللقاء بها قريب جداً، وكأنه قاب قوسين أو أدنى، إلّا أنه عندما يصل إلى الموقف يجده خالياً منها كل صباح.
يبدأ الصدر بالانقباض عندما تجتاز الساعة التاسعة، حتى ينسج العنكبوت خيوطه على ناظريه حين يطول الانتظار ويدرك أن الانقطاع متواصل، أحس أن اليأس أصبح حقيقة واقعة والآمال التي مد جسورها لا يستطيع العبور عليها، وكأنه قد سرقها من غيره، وقد يأتي آخرون فيسلبونها منه، أخذ يبحث عن الأسباب الموصولة والعلة والمعلول دون أن يضع لها مقدمات أو يرجو من ورائها نتائج، وكل ما يفكر فيه إنما هو بحث عابث.
كادت الساعة تقترب من التاسعة عندما عبر شارعين متجاورين أحدهما ينزل من الجسر ليصب في الساحة والآخر يخرج من الساحة ليصعد الجسر، رأى الحافلة تستدير من الشارع الذي يصب في الساحة متجهة نحو الموقف، أسرع الخُطى مستقبلاً الشارع المقابل للموقف، وقد أشفقت الإشارة الحمراء عليه فحجزت الحافلة برهة، إلّا أن الأشجار السامقة والمتكاتفة قليلاً لم تنظر إليه بلحظة عين من الشفقة، لم تسمح له بالتفريق بين الرجال والنساء ولا التمييز بين الواقفين والجالسين، لم تكن صورة اللقاء مرتسمة في خياله، لا لأنه نسيها ولكن مرحلة من اليأس بدأت تومىء إلى قلبه بأصابع نحيفة، عندما عبر الشارع المقابل للموقف والمعاكس له في الاتجاه ووقف يتهيأ لعبور الشارع الذي يطل عليه الموقف ؛ فوجئ بها مقابلة له واقفة في باب الكلية المجاورة، تمدّ رأسها في باب الكلية متطلعة فيها وكأنها ترقب شخصاً، ارتاع قلبه وخفق إلّا أنه سرعان ما هدأ، وبلحظة واحدة اصطرع فيه اليأس البطيء مع الأمل المفاجئ، تغافل عنها وتظاهر بأنه لم يرها، تجاوزها بمقدار جسم الحافلة، نظر إلى لوحة الخط الموجودة في الواجهة فوجدها لا تخدمه فرح بذلك متخذاً منه علة في الرجوع إليها، سار نحوها حتى وقف أمامها وقال لها:
- صباح الخير
- أهلاً
الصفحات
- « first
- ‹ previous
- 1
- 2
- 3
- 4