أنت هنا

قراءة كتاب في مدار النقد الأدبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في مدار النقد الأدبي

في مدار النقد الأدبي

كتاب " في مدار النقد الأدبي " ، تأليف د. علي مهدي زيتون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

4- شرعية المنهج البنيوي الثقافي

والكاتب الذي يكتب، إنما يكتب باللغة ما مكّنته ثقافته أن يراه من هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم.

وإذا كانت الثقافة مرتبطة بالطبيعة، متولّدة عنها، قادرة على تغييرها (انجليتون، ص21)، فإن الأدب، بناءً على ما تقدم، تعامل حيويّ مع الطبيعة بمعناها الواسع، لأنه لا يشهد ولادته إلا من داخل الثقافة المتولدة عنها. ويترتب على ذلك أن تظل عين الأديب المنطلقة من ثقافته ومما استوعبته تلك الثقافة عن العالم أسيرة ذلك الاستيعاب من جهة، وأن تقوم بمحاولة الإفلات منه من جهة أخرى، تماماً مثلما تظل الثقافة لصيقة بالطبيعة، منفكة عنها في آن معاً.

وآليّة الإفلات آلية معقدة، لأن رؤية الكاتب إلى العالم رؤية مركّبة فهي تتكون من ثقافته، مما حصّله شخصياً، ومما تناهى إليه من ثقافة الجماعة، ووجهة نظرها في الوجود جرّاء تجربتها المستمرة، ومن قناعاته، ومن همومه، واهتماماته، وميوله وانفعاله حيال العالم.

ولا تشتغل مكوّنات هذه الرؤية منفصلة، فهي مكوّنات وظيفيّة تشتغل من داخل بنية موحّدة هي بنية تلك الرؤية. فإذا كان المكوّن الأوّل بما هو طريقة حياة غير فرديّة ضابطاً موضوعيًّا للرؤية في ما تعاينه من جوانب العالم، ويشكل ضرورة لبقاء الاتصال مع الآخر-المتلقي، أسبغت المكوّنات الأخيرة، والمدموغة بدَمغة الثقافة بالطبع، بعداً ذاتياً على المعايَن بما يضمّنه موقفاً خاصاً، وبعداً وجودياً فردياً يحاول التفلت من أسر الطبيعة ببعديها المادي والروحي، والاحتجاج عليها بما يدفع نحو ما يبدو إعادة صوغ للعالم. ويعني كل ذلك أن رؤية أيّ أديب قائمة في ظل هيمنة ثقافية هي بالإضافة إلى ذلك، بصمة لا تشبهها بصمة أخرى. وما تراه من أحد جوانب العالم هو تجلٍّ فريد ومختلف عما لا يعدّ ولا يحصى من ممكنات تجلّيه عبر رؤى غير متناهية العدد، وإن هذا التجلّي هو مكمن العمليّة الإبداعية، أو ما يسمى بالجمالية الأدبية المثيرة للمتعة، على اعتبار أن الأديب مثقف كبير، وما يراه متصل بالحقائق الإنسانية الكبرى، مدهش، مشرِكٌ القارئ في عملية الكشف.

ويطرح هذا الفهم للجمالية الأدبية سؤالاً جوهرياً موعوداً، هل يأخذ منهج ثقافي محدد شرعيته وقوته في مقاربة الخطاب الأدبي بناءً على ذلك الفهم؟ تتطلب الإجابة إزالة لبس يمكن أن يحضر إلى الذهن مترافقاً مع هذا السؤال. هل من صلة تربط هذا المنهج بما يعرف بمنهج النقد الثقافي؟

يرى منهج النقد الثقافي أن ولادته تمثّل موتاً للنقد الأدبي. (الغذامي، ص 8). ويعني هذا أنه منهج متخلٍّ عن الاهتمام بالأدبية التي يرى الغذامي أن مؤسسة النقد الأدبي الرسمية قد استغرقت كلّ وقتها في التعامل معها، واستنفذت، في ذلك، كل طاقاتها من دون أن تتنبّه إلى "المضمر الإيديولوجي" في الخطاب (ص 14). وكان طبيعياً أن يرفض التصنيف الذي أنتجته تلك المؤسسة بين أدبٍ راقٍ، وآخر شعبي (ص 14 و58 و61)، جاعلاً من الأغنية الشبابيّة، والنكتة، والإشاعة مادة أساسيّة لذلك النقد. وتوجهه إلى هذا النوع من المادّة النقديّة لم يكن بدافع تبنّيه وجهة نظر ما بعد الحداثة (ص 14 و16) فحسب، ولكن، لأنها تقوم بشكل أساسي على "المضمر الإيديولوجي" الذي لا يكون فيها مستتراً بلبوس الجمالية التي يهتم بها الأدب الراقي. واهتمام هذا النقد بالهامشي دون المحوريّ، تبعاً لمقتضيات ما بعد البنيوية، دفعه ليقلّل من شأن المتعة الجمالية التي يرى إليها؛ أنها ليست فعلاً فطريّاً، بل شيء نتعلمه. فالاستمتاع لا يكون إلا بمقاييس اجتماعية (ص 23-24)، والجمالي حيلة ثقافيّة تُمرِّر من خلاله أنساقها (ص 77) التي غالباً ما تكون أنساقاً مرضيّة (ص 93-140). والمسألة هنا لا تتعلق بتقويم خاص بهذا المنهج المسألة مسألة موقف أن تقبل به وبمرتكزاته ما بعد الحداثيّة أو لا تقبل.

ولعل أول ما يستوقفنا مما بعد الحداثة مقولتها إن الذات غائبة وإن الآخر هو الحاضر فيها. صحيح أن الذات تراكم من حضور الآخر فيها، إلا أن ذلك التراكم لا يشبه تراكم الطبقات الرسوبية، من حيث استقرار كلّ طبقة على طبيعتها. فللذّات آليّة عجيبة في إعادة صوغ ما تراكم، حتّى ليبدو تشكيلاً منفصلاً عن أصوله فلا يشبهها. الذات عسل تلك الزهور، ولكنها ليست إياها.

والمقولة الثانية التي تستوقفنا من مقولات التفكيكية هي أن النصّ نتاج تناصّ متعدّد متراكم، وأن مهمّة النقد فكفكة الطبقات الرسوبية المكوّنة له، وتخليصه منها حتى لا يبقى منه شيء، لا يبقى له ما يقوله. التناصّ حقيقة موضوعيّة لا يمكن نكرانها، إلا أنّ الذات (البصمة) ورؤيتها (البصمة) قد أعطيا ذلك التناصّ خصوصيّة لا يمكن أن تكون لغيره. فهو نصّ لا مثيل له، ولا يمكن أن يفكك إلى مكوّناته، لأن مكوّناته بما كانت عليه من قيمة مستقلة قد زالت مع التناصّ. فبات النصّ هو الحضور والمكوّنات هي الغياب. إنه عسل تلك النصوص وليس إياها. هل يستطيع أحد أن يعيد توزيع العسل على الزهور التي تحدّر منها، عبر النحلة؟

العسل هو الحضور، وذات النحلة هي الحضور. الزهور والآخرون غياب في حضرة الخلق الجديد.

الصفحات