كتاب " في مدار النقد الأدبي " ، تأليف د. علي مهدي زيتون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب في مدار النقد الأدبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مدار النقد الأدبي
5.1 النزعتان الفينيقية والفرعونية وأثرهما الإيجابي
وقد نما وسط زروع هاتين الثقافتين الأقوى والأوسع انتشاراً ثقافة مضادّة غير عفويّة أو بريئة. نعني بها النزعة الفينيقية في لبنان والفرعونيّة في مصر. ولقد أدّت هذه الثقافة دوراً إيجابياً من حيث لم تحتسب. أسهمت بصوغ الكثير من الأجوبة حين كانت تطرح أسئلة عن حقيقة القومية من جهة، وعن مشروعية تحويل الملكيات الخاصة إلى ملكيات عامة من جهة ثانية. لقد شكّلت هذه الأسئلة بما طرحته وبخلفياتها الاجتماعية والعقدية مدخلاً لغنى الثقافة اليساريّة وقوّتها.
5.2 الثقافة الوطنية المنفصلة عن الغرب والمثاقفة
ويجرّنا الحديث عن التعامل الإيجابي مع حركة المثاقفة إلى الحديث عن الموقف المضادّ لها. ويحضر، بهذا الخصوص، الرأي الحصيف الذي أطلقه جابر عصفور عن الثقافة الوطنيّة التي دعا إليها بعض المثقفين، وفي مراحل متعدّدة، مستندين في دعوتهم تلك إلى الموروث العربي وحده مبتعدين عن أيّ شكل من أشكال المثاقفة مع الغرب.
رأى جابر عصفور أن ظروف نشأة تلك الثقافة قد جعلتها "استجابة دفاعيّة، متوتّرة، عصابيّة، هي ردّ فعل مضادّ للمخاطر المباشرة التي كانت تواجهها الأنا القومية" (جابر عصفور، ص 47)؛ فكان أن اتّصفت، جرّاء ذلك، بالشعور "المراوغ بالدونيّة في حضرة الآخر" (م.ن.، ص 52). ولقد دفعها هذا الشعور إلى اختزال الآخر "في صفة واحدة" (م.ن.، ص 53) مسقطة السياسي على الثقافي (ص.ن)، مندفعة إلى ما تتوهّم فيه خصوصيّة تحميها وأصالة تصونها (م.ن.، ص 54)، محققة نوعاً آخر من "التراتب القمعي، تعلو فيه الصفات المتخيّلة للأنا على الصفات المتوهّمة للآخر على نحو تنعكس فيه علاقة الأعلى بالأدنى". (م.ن.، ص 56).
والسؤال الذي يطرح نفسه حيال هذه الخصائص المرضيّة التي كشفها جابر عصفور عن الثقافة الوطنية المستقلّة، هو هل تتعدّى هذه الخصائص ما دعا إليه حسن حنفي إلى الناتج الثقافي العربي المترتّب على المثاقفة مع الغرب؟ لا تنسحب هذه الخصائص على معظم تشكيلات الثقافة اليسارية، التي حضرت حقبة طويلة من عقود القرن العشرين في المشرق العربي إلا بحدود ضيّقة جدّاً. وحديث جابر عصفور عن الأصوليّتين الماركسيّة والإسلاميّة وما وصفهما به من "أحاديّة الإدراك، وحرفية الفهم... والعناصر المفضية إلى الآليّات الفكريّة الملازمة: الجمود... والانغلاق... والاسترابة من كل وافد، ومركزية الأنا، ومعاداة الآخر"(ص.ن). هو حديث يتناول تجربة النشأة الشيوعية السوفيتيّة، والتجربة الإسلاميّة الباكستانيّة تحديداً. ولا أقدّر أنه قصد تجربة المثاقفة العربية مع ما هو تقدّمي في أوروبا. ويعني ذلك أنه كان يتحدّث عن اتجاه ثقافي عربي واحد كان يقع على هامش الحياة الثقافية العَائمة بالنهضة اليسارية. ونقده ذلك الاتجاه علميّ سليم، ودعوته إلى "أن تُخضع الأنا هذا الآخر إلى منطق المساءلة" بدل أن "تتذبذب بين الإعجاب المقلّد في حال التبعيّة، والنفور السلبي في مخايلة التحرّر الإيديولوجيّ" (ص 52-53) هي دعوة مفيدة منتمية إلى منطق التاريخ الذي يقدّم لنا التجربة البشرية مع الثقافة تجربة متنقّلة، وهي في تنقّلها هذا دعوة للمتخلّف أن يفيد مما وصل إليه الآخر بشروط أهمّها اثنان:
1- أن يقرأ المتخلّف تراثه قراءة نقدية مبنيّة على آخر ما توصّلت إليه الحياة العلمية المتقدمة من مناهج في التفكير؛ ليكون على بيّنة من أمره، فيدرك ما بقي مضيئاً من ذلك التراث، ويعرف ما سقط منه، فلم يعد قادراً على مجاراة الحياة.
2- أن يطرح على ثقافة الآخر سلسلة من الأسئلة الجادّة التي تعبّر عن حاجات الأنا المعرفيّة مقيماً معها حواراً منطلقاً من الاعتراف بها، متسلّحاً، في كل ذلك، بثقة بالنفس مرتكزة على تعامل علمي مع الموروث، جيّده ورديئه من ناحية، وعلى اعتبار الذات في طور العبور من منطقة التخلّف إلى منطقة التقدّم من جهة ثانية.
5.3 الغرب وواقع الثقافة اليساريّة في الشرق
ومما يجدر ذكره، في هذا المقام، أن الغرب الذي نثاقفه هو غرب غير حياديّ في موقفه من المجتمع العربي، على الأقل في توجّهات حكوماته غير الأخلاقيّة. فقد أقامت فضلاً عن حركة الاستشراق المنظمة الهادفة إلى امتلاك معرفة بالشرق لامتلاكه، دوائر متخصّصة تضع مجمل حياة الشرقيّين وعلى رأسها الحياة الثقافية، تحت مجهرها. تراقب ما يجري وما يحدث دافعة الحكومات المحليّة إلى مواقف معرقلة إلى أي نمو جدّي.
ويعني ذلك أنّ المثاقفة قد تمّت خارج سلطة الحكّام. وهي وإن أنشأت لنفسها مؤسسات حزبيّة وغير حزبيّة إلّا أنّ هذه المؤسسات لم تكن من الرقيّ بما يسمح لها أن تنشئ الدوائر البحثيّة الجادّة المتخصّصة التي تمكّنها من رسم الخطط السليمة الناجحة فتكون البديل الجدي والفاعل للحكومات المحليّة في إقامة النهضة والتقدم. ولا يسوّغ لها هذا القصور أنها نمت في الظلّ وتحرّكت عبر عمليّات التهريب، كما لا يمكنها أن تتذرّع بأن حركتها الثقافيّة حركة مقموعة، خصوصاً أنّ الثقافة الإسلامية التي تحرّكت بعد سقوط تجربة الاتحاد السوفيتي لم تكن مقموعة فحسب، كانت مادّة للتلاعب من قبل الاستخبارات الغربية أيضاً، نشأت بين زروعها زروعٌ سامة قاتلة وهي مع ذلك استطاعت أن تفعل ما فعلته في جنوب لبنان وفي غزة، مبشّرة بشرق جديد واعد. فهل يجرنا هذا إلى القول إنّ فشل التجربة اليسارية المشرقية عائد إلى سبب ذاتي يخصّها، وإلى أن هذه الثقافة لم تكن الثقافة المؤهلة للنهوض بالحياة العامة؟
وإذا كان الأمر كذلك، ما سبب ولادتها ووجودها إذاً؟ وهل يترتب على أزمتها أزمة في الأدب العربي؟ ما أبعادها، خصوصاً بعد انحسار الثقافة اليسارية عن الساحة، وعدم اكتمال ولادة ثقافة جديدة بديلة؟
تستدعي الإجابة عن هذه الأسئلة بحثاً آخر لا يتسع له بحثنا الحالي.