كتاب " في مدار النقد الأدبي " ، تأليف د. علي مهدي زيتون ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب في مدار النقد الأدبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مدار النقد الأدبي
وإذا أردنا أن نحدّد أهمّ ما يميّز منهج النقد الثقافي، وجدناه متجلياً في نقطتين أساسيتين: مادة النقد الهامشية، وهدفه في الكشف عن الأنساق الثقافية في ذلك الخطاب الهامشي. ويعني ذلك أن المنهج الثقافي الذي نسعى إليه مختلف إلى حد التناقض مع منهج النقد الثقافي. منهجنا منتمٍ إلى الحداثة ببعدها العقلاني العلمي من جهةٍ، وببعدها الأخلاقي الشرقي من جهة أخرى.
وهو منهج لا يدّعي التعامل مع الخطاب الأدبي منفرداً، لأن ذلك مدعاة لكي يتحوّل إلى منهج موضوعاتي تقليديّ لا يفيد شيئاً في الكشف عن جماليات الخطاب وأدبيته. وهو، منفرداً، لا يمكنه النهوض بعمليّة تحاول امتلاك معرفة حقيقية بجماليات الخطاب الأدبي. يعني أنه بحاجة إلى منهج مكمّل يمتلك قابليّة التعاون والتحاور.
ولعلّ أول ما يخطر بالبال هو المنهج البنيوي الذي يمكن أن يشكل مع المنهج الثقافي منهجاً بنيوياً تكوينياً جديداً. فالبنيوية، مع كل التحفظات التي سيقت حولها، ما زالت قابلية جيدة للتعامل مع الخطاب الأدبي. فهذا الخطاب قصيدة كان، أم قصة، أم رواية هو بنية لغوية مخصوصة، من الناحية العلمية. ولا يمكن تجاوز هذه البنية اللغوية في أي منهج من المناهج من دون الوقوع في خلل ما. فالبنيوية الألسنية مطلوبة لتشكل مستنداً علمياً يواجهه البعد الثقافي من المنهج المركّب. وإذا قال لنا قائل: لماذا لا نعتمد منهج لوكاتش الذي نمّاه غولدمان ما دمنا نبحث عن منهج بنيوي تكويني؟
المنهج البنيوي التكويني بنسخته الماركسية أحاديّ العين التي يرى من خلالها القيم الفنية التي يكتنزها الخطاب، في أثناء تحويلها إلى مفاهيم جمالية. إنها عين الطبقة الاجتماعيّة التي تخلّى المبدع لأجلها عن فرديّته. ولا تتجلّى هذه العين من خلال العثور على الطريقة التي تمّ بها التعبير عن الواقع التاريخي الاجتماعي عبر الحساسية الفردية للمبدع في الخطاب الأدبي الذي ندرسه (غولدمان، ص 32)، لأن ذلك تمثيل للثقافة التي هي طريقة حياة في مرحلة من مراحل مسيرة البشرية. والعمق الذي تريد البنيوية التكوينية الماركسية الوصول إليه هو "إدخال بنية دلالية [لغوية] في بنية أخرى أوسع منها تكون فيها الأولى جزءاً من مقوماتها" (باسكادي، ص 23 و43).
والبنية الأوسع هي الذهنيّة الجمعيّة الخاصة بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الكاتب. والذهنيّة الممثلة لرؤية الطبقة العاملة إلى نفسها، وإلى دورها، وإلى التاريخ، هي رؤية مضغوطة في قالب الفلسفة الماركسية المادية التي لا يمكنها أن تكون كما رأت إلى نفسها من أنها نهاية الفلسفات العلمية وذروتها، وأنّ التاريخ متحوّل، كما ترى، من الصراع إلى المنافسة. الثقافة أوسع من الماركسيّة وأطول باعاً وأغنى، لأنّ الماركسيّة نفسها مكوّن من مكوّنات الثقافة.
ومهما يكن من أمر، فإننا قد رأينا أن ما تراه عين الكاتب من هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم هو ذو خصوصيّة لا تتكرر عند أي راءٍ آخر. فالعالم غير أحاديّ، هو متعدّد يتكشّف عن بعدٍ جديدٍ مع كل رؤية جديدة. والتعبير عن المرئيّ ذو خصوصية غير قابلة للتكرار. فولادة الخصوصية الرؤيوية متزامنة مع ولادة الخصوصيّة التعبيريّة. ولا يستطيع أحد الطرفين أن يوجد مستقلاً عن الآخر، أو أن يولد قبله أو بعده. وحين تكون الرؤية ثقافية بشكل أساسي، يعني أن الثقافة هي المكوّن الفعلي للخصوصية المرئيّة، المعبر عنها بخصوصيّة لغوية غير منفصلة عنها. ولا توجد الأولى، كما قلنا، مستقلة عن الثانية في أي موضع من مواضعها. ويصل بنا هذا إلى القول بمنهج (بنيوي ثقافي)، أو (بنيوي تكويني جديد). ولا يقوم هذا المنهج على إجراءين منفصلين كما رأت البنيوية التكوينية الطبقية. فالخطاب الأدبي نظام سيميولوجي (بارت، درس السيميولوجيا)، لا يتجلّى بوصفه رسالة إلى المتلقي فحسب، ولكنه يتجلى بوصفه رسالة من الكاتب أيضاً وفي الوقت نفسه. ولذلك فإن جماليّة ذلك الخطاب لا يمكنها أن تتّضح أو تتجلّى من خلال طرف واحد من طرفي المعادلة.
فالرؤية بارتباطها بالكاتب، والتعبير بارتباطه بالمتلقي في جانب من جوانبه؛ لأنه موجَّه إليه هما العاملان الأساسيّان في تحديد جماليّة الخطاب. ويعني ذلك أن كمال الجمال الأدبي هو في تمام التعبير والدلالة اللذين هما ذوا بعد ثقافي. فالأدبية هي النظام السيميولوجي عينه. والنظام السيميولوجي هو نظام شديد الاتصال بالثقافة أو هو تجلٍّ من تجلياتها أو عمق من أعماقها، كما ترى جوليا كريستيفا. وإذا كانت الفكرة والتعبير وجهين لحقيقة واحدة، فالنظام السيميولوجي والثقافة وجهان لحقيقة واحدة، ولا يوجد أي طرف من دون وجود الطرف الثاني. والإمساك بأي قيمة من القيم الفنيّة التي يكتنزها الخطاب الأدبي، لا يكون إمساكاً عميقاً وحقيقياً ما لم يكن هذا الإمساك من خلال المنهج الثقافي. وعنوان رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط"، من الناحية اللغوية البحتة، يقدم دلالته من خلال إضافة كلمة (شرق) إلى كلمة (المتوسط). وهذه الإضافة تحدّد لنا منطقة تشكّل مسرحاً لأحداث الرواية. ولا يتكشّف المستور من هذا العنوان إلا من خلال المنهج الثقافي الذي يضع (شرق المتوسط) في التقابل مع (غرب المتوسط) في إيماءة قوية إلى التقاطب الثقافي والسياسي والاجتماعي بين المنطقتين. يحمل هذا العنوان، بناءً على ذلك المنهج، حساسيّة مفرطة في التعبير عن وجع الأديب وقناعاته وهمومه واهتماماته. وما كان هذا ليتكشف من دون أن نأخذ ثقافة الأديب ورؤيته إلى العالم بعين الاعتبار.