أنت هنا

قراءة كتاب نوارة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نوارة

نوارة

كتاب " نوارة " ، تأليف هدى عيد ، والذيي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هل يذكّركم الغد بتلك الأشياء التي نفقدها؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

لا أحبّ حصصَ اللغات إلّا فيما ندر، بعض الشعر قد يستهويني، اللغة العادية استعضتُ عنها بالرموز والأرقام، تجذبني حصص الموادِ العلمية، يعروني حماس حيال الـ Math والـ Biologie تحديداً، أُسرّ ونحن في المختبر نكتشف بعض الحقائق الأولية التي تجاوزها العالم الكبير، نتبادلها ونحن نفتعل الدهشة والضحكات.

عالمي الحقيقي هو عالم الأنترنت، عالم الفرص المسحورة التي يفتحها أمامي، أعبر من خلاله إلى كل العوالم التي تعجبني، أدخل مواقعه ومحطاته، أشارك في التصويت عبر بعض النوادي، أجري الـ تشات، وسوى ذلك، أحسّ أنّني في عالم متجدّد لا أستطيع الابتعاد عنه. هناك أحيا في أوقات كثيرة، وقد أدخل مواقع تزعج مربّيتي المتذاكية. لم أعرف والدي إلّا فيما ندر، تولت والدتي طرده من حياتها حين كانا في فرنسا، وذلك بعد ولادة أخي رام، وبعد عودتنا إلى قصر جدّي زارنا الرجل، يبدو أنه كانَ يبحث عن بداية جديدة، داعب شعر أخي وشعري، حاول أن يقبّلني، كنت قد أنهيت الخامسة من عمري، لم أنجذب له، لا أذكر تفاصيل اللقاء، أذكر جمعاً من الناس في القاعة الكبرى، وشاباً ملتحياً بينهم، يحاول التودّد إليّ ولا يفلح، حمل أخي رام وقبّله، بعد ذلك غادر المكان.

قيل لي إنه كان أحد موظفي جدّي.

يبدو أنهم كانوا يحاولون عقد صلح بين الاثنين. لم يفلحوا، إذ لم أره بعد ذلك إلّا لماماً وفي مناسبات متباعدة، آخرها عند موت جدّي.

حضر مُعزّياً، انتبهت يومها، وكنت قد بلغت الثالثة عشرة، أنه رجلٌ ضعيف، لا يستطيع أن يكون أبي حقاً، متردد في سلامه، وفي مقاله ولباسه، تعامله أمي بتعالٍ، بدا خجلاً أمامي، أحسست بأنني غريبة عنه مجدداً، أخفقت قبلته بتعزيتي.

تدّعي أمي أنها هي من تولّى تربيتي، أو على وجه أدقّ رعايتي من بعيد، نلتقي أحياناً كغريبتين إلى مائدة الغداء. وحين لا تكون مسافرة تنتظرنا عند عودتنا من المدرسة، تقبّلنا، تعلّق على هيئتنا الفوضوية وعلى القميص المتّسخ، وقد كتبنا عليه أنا ورام... يغضبها حذاء رام المغبّر دائماً، نجلس لتناول الطعام بصمت كأنّنا غرباء التقوا في مطعم، نتبادل تعليقات سريعة، تحاول أن تستفسر عن سير الدروس، نتبادل أنا ورام نظرات ضاحكة، ننهي طعامنا بسرعة، نحمد اللّه، ثم ينطلق كلّ منا إلى غرفته، حين كان جدّي حيّاً كانت الأمور مختلفة...

كان الرجل طاقة متفجّرة دائمة التدفق (والانبجاس)، هذه المفردة أعجبتني وأستاذ الأدب العربي يتحدّث عن توظيفها عند السيّاب، وهو أحد الشعراء المعاصرين الذين أثّروا فيه كما يذكر لنا دائماً. يلقي نكاتاً آسرة تضحكنا، يُغرقنا بتعليقات ذكية، يطلق على كلّ منا لقباً، يسخر في غالب الأحيان من جدّتي التي تبدو قوية متماسكة أمام الناس، ضعيفة خفيضة الصوت في حضوره، يعلق على أصناف الطعام، يستحسن ويرفض، يبدو لطيفاً رقيقاً أحياناً، وفي أوقات أخرى يكون عصبيّاً معتكر المزاج، فننسحب من أمامه بهدوء.

أعترف أنه كان يحبّني بعمق، ويدلّلني كذلك، يُفضّلُني ببساطة على أمّي ابنته، كان بينهما، لا أدري، معركة صامتة باردة، وكانت في كلّ زواج لها تحاول تحدياً له، تفرض من تريد عليه، فإذا بها تتحدى نفسها، إذ تعود لتكتشف أن من تزوجته لا يعجبها، فتطلقه؛ أستغرب الآن كيف كانت تجد رجالاً يرضون أن تكون العصمة بيدها!!

أمّي امرأة جميلة أصلاً، وإن كانت عمليات التجميل التي بدأت تجريها قد راحت تشوّه جمالها، رفعت حاجبيها، وحقنت شفتيها أكثر من مرّة، في الأخيرة منها حينما كانت تحدّثني، أحسست أن شفتها السفلى تكاد تنفجر، لم أعلّق، لأنّها عصبيّة تكره التدخل في شؤونها. أخذتْ من جدّي عصبيّته، باتت دائمة السفر بعد موته، لا تكاد تستقرّ، انكفأت جدتي على حالها، خفّت الحفلات التي باتت تشارك فيها، وتلك التي كانت تدعو إليها، وتُثير الصخب في أنحاء القصر وحدائقه بسببها، أصبحت المرأة بعد موت جدّي أكثر صمتاً وانغلاقاً، صارت تنظر إلينا كأنها تبحث في ذاكرتها عن ظلال تشبهنا لكنها لا تجدها، أحياناً كانت لا تجدني وأنا تحت ناظريها، أرتقي الدرج الطويل، أسمعها تناديني قمر، أقف، أنتظر ما ستقول، تبقى تناديني وأنا واقفة أتأملها، أدرك الآن أن الموت هو الفراغ... أنا لم أفقه الموت بعد، لكن تعرّفت عليه من عينيْ جدّتي، أفرغها جدّي حين مات، جوّفها كما كان يفعل الفراعنة بمومياءاتهم، باتت المرأة مومياء غير ملتفة، تدور فقط في فَلَك جدّي، وتلاحق آخر التحقيقات حول موته، وتعبأ بكلّ ما كان يمتّ إليه بصلة. أهملت أمر الجمعية التي كانت تملأ فراغ أيامها، بل أعتقد أنها حلّتها.

أمّي صارت تقضي معظم أوقاتها مسافرة، كلّ يومين مؤتمر، اجتماع يبحث في شأن بعض الشركات، لقاءات مع مستثمرين أجانب، حفلات تأبين أحياناً للراحل العظيم، جدّي، بعدها تقدّم شيكات ممهورة بتوقيعها، شيكات بمبالغ ضخمة تتبرع بها، اصطحبتني مرتين إلى حفلين من ذاك النوع، جدّتي رفضت الحضور، قالت إنّ من يعنيها أمره ليس حاضراً في الحفل، طلبت والدتي أن أحلّ مكانها، فوجئتُ بكمّ الناس الحاضرين، وبعدد الرجال ذوي البزّات الرسمية، سمعت يومها كلمات كثيرة كلّها جعلت من جدّي رجلاً عظيماً عظيماً، يكاد يصنع المعجزات، في زمن يفتقدها؛ كان قد مضى على موته عامان، انتهى الحفل بتقديم درع تكريميّ له تسلمتها كريمته، ووقفت الحفيدة التي هي أنا إلى جوارها تضامناً، كذلك فعل رام، عدسات الكاميرات الكثيرة تسابقت لالتقاط الصور لنا في وضعيات مختلفة.

ونحن نخرج ضمن الجموع، ورجال الحرس الشخصي يحفّون بنا أحسست بلسعة قرب كاحل قدمي اليُمنى، انحنَيت أمَسّدها، فتأخرت قليلاً عن الموكب، سمعت أحد الرجال يقول، وأنا أرفع رأسي:

ـ اللّه لا يردّه كان أسوأ الناس، شو نسينا؟ لم ننسَ بعد. صُعقت، نظرت نحوه بغضب، لكنه لم يلتفت، كان متلهياً بالنظر إلى صبية جميلة تكاد توازينا، دخلتُ السيّارة، ورأسي الصغير لا يزال مشتعلاً بالعبارة المستفزة، أسأل نفسي دون أن أجرؤ على طرح السؤال علناً.

ـ هل حقّاً، كان جدّي أسوأ الناس؟!

منذ أربعة أيّام تقريباً لم ننم بسبب الفوضى التي أثارتها جدّتي... فوضى عارمة استدعت وجود محقّق، وبضعة رجال من الشرطة معه، كذلك استدعت إفساداً للهدوء الذي أستمتع به عادة.

أنا نومي ثقيل، لا شيء يهزّني، لكنّ صراخ جدّتي في بدايات ذلك الفجر أرّقني، صراخٌ مجنونٌ لم ينقطع حتّى انقطعت معه كلّ أحلامي، واضطررت بعدها إلى مغادرة الفراش، والنزول إلى الطابق الأوّل. بمجرّد أن لمحتني أخرج بالبيجاما الشورت، الزهرية اللون، رفعت حاجبيها مشيرةً بهما صعوداً، فهمت منها أنّها تريد منّي العودة إلى داخل غرفتي فأذعنتُ؛ في العادة لا أفعل ذلك، لكنّ وجود أولئك الغرباء، والحالة المتهالكة التي بدت عليها، دفعتني لاحترام إرادَتها.

لم أناكفها، غالباً ما كنتُ أفعل، أحياناً أتسلّى بمشاكستها، حين يخلو لنا القصر على اتّساعه... تسافرُ أمّي، ويتراخى الخدم المنتشرون في أنحاء المكان، وأمام أبواب الغرف في الطابق السفلي، أو في الحدائق المتوزعة، هل كانوا يجرؤون على فعل ذلك في حضرة جدّي؟

الصفحات