أنت هنا

قراءة كتاب نوارة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نوارة

نوارة

كتاب " نوارة " ، تأليف هدى عيد ، والذيي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هل يذكّركم الغد بتلك الأشياء التي نفقدها؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

كان صوته يرجّ المكان، الآن أراهم يسيرون بتمهل، ينقلون بعض القطع الخشبيّة متضاحكين، ينظفون الأثاث وكأنهم روبوتات ثقيلة الحركة، أحياناً أحاول ادّعاء شيء من السلطة، ورفع صوتي، فلا يهابونني كثيراً، يتعاملون معي على أني صغيرة المكان دائماً.

الوحيدة التي يخافونها حقاً بعد موت جدّي، هي والدتي بصراخها، وعصبيتها، وبدمها الذي يفور سريعاً لمجرّد هفوة أو حتى من دون هفوات.. المرأة صاعقة حقيقيّة لكلّ من يقترب منها، ولستُ استثناء في ذلك، المرات التي أحسست فيها بحبّها لي تكاد تكون نادرة، استعضت عنها، وعن أبي بجدّي أوّلاً، وبأخي رام بعد وفاة جدّي، باتت علاقتنا مَتينة الجذور، أحسسنا فجأة بيُتمٍ شديد لفقده، فتآلفنا أنا ورام يحمي واحدنا الآخر.

عُدت يَوْمَها إلى غرفتي، لكني لم أستطع الاستقرار طويلاً في الفراش، كان لا بدّ لي من مغادرته، في الأمر ما يُريب، القشعريرة اعترت جلدي، وأنا أسمع صوت جدّتي صفية وهي تتحدّث، تقول كلاماً غريباً مجنوناً، تدّعي عودة جدّي، والمحقّق، وهو قريبٌ لها فيما أعتقد إذ يدعوها خالتي طوال الوقت، ويتظاهر باحترام واضح لها، يهزّ رأسه، عدم التصديق يبدو على ملامحه، لكنه يواصل الإصغاء باهتمام ظاهر.

وقفت مسمّرةً قرب الباب الخشبيّ الكبير، وجدتي سابحةٌ في عالمها، تتحدّث، تجيب قليلاً لتغرق بعدها في بحرٍ تراه وحدَها. تجحظ عيناها، ويتجمّد البؤبؤ داخلهما، كأنما هي ترى عفريتاً أمامها، حدّثتني فيما حدّثتني بعض المرات في طفولتي عن العفاريت المهولة، لكنها كانت تصمت فجأة حين يدخل الغرفة علينا أحدهم.

جدّتي تخاف من جدّي، عاشت طوال عمرها هذا الخوف، على الرغم من أنها أمام الناس ادّعت غير ذلك.. سلطة الرجل عليها كانت تنبعث من عينيه، ينظر إليها بخطورة إذ يزعجه أمرٌ ما، أحياناً يُصدر بعض الهمهمَات فتسارع هي إلى تلبية ما يريد، أو إلى تجنّب ما يزعجه. هذه السطوة هشّمتها والدتي، التي كانت دائمة التمرّد على أبيها على الرغم من جبروته، دائمة الرفض لكلّ ما يقدّم لها، ترفضه في حضوره، وحين يغادر المكان تعود للإمساك به، وتَفَحُّصِهِ.

أذكر يوم أهداها جدّي السيّارة البورش الحمراء بمناسبة عيد ميلادها، كنت في التاسعة تقريباً، أمسكَ بها من كتفيها، احتضنها، قبّل خدّها، وقدّم لها علّاقة المفاتيح، خرجت لترى السيّارة متوقفة أمام البوابة الكبرى، وعلا صراخها، وسكنتها موجةٌ عصبية متشنّجة لأنّها تكره اللون الأحمر كما أعلنت، ولأنّها تكره أن يفرض أحدٌ مزاجه عليها، ولأنها تمقت بالذات هذا النوع من السيارات، ولأنها، ولأنّها...

أذكر أن جدّي لم يردّ عليها، ولم يرفع صوته في وجهها، اكتفى بنظرة طويلة رماها بها، وهو يغادر المكان بهدوء كلّي، دون أن ينبس بكلمة، بعد يومين اصطحبتني معها لتجرّب السيارة الجديدة...

في الآونة الأخيرة قبل مقتله لم يعد جدّي كما عرفته، ازداد شروده ونحولُه وطالت الفترات التي يقضيها وحيداً في مكتبته، أحياناً يدخلها صباحاً، ولا يخرج منها إلّا آخر الليل. يبدو عندها منهكاً زائغ العينين، يسأل عنه كثيرون طوال النهار، تضطر جدّتي للكذب أكثر من مرّة، تدّعي حيناً أنه مسافِرٌ، وحيناً آخر تقول: إنّه قد نام منذ قليل.

أناكفها مرّات، قائلةً لها، وأنا أفتح عينيّ في وجهها مواجـهة إيّاها:

ـ إنّه في الداخل، أنت تكذبين.

فتشير بإصبعها نحو فمي مهدّدة هامسة في أذني:

ـ اخرسي؛ هذا ليس كذباً. تدير محرّكِ سيارتها وتغادر المكان متحدية، ولا أفهم كيف يدوس الكبار كلامهم أمام أعيننا.

لعب جدّي دور الأب في حياتي، كان جدَاراً صلباً استندت إليه، لم أدرك ذلك إلّا بعد أن سرقه الانفجار الكبير منّي؛ أحبَّ أمي لكنها لم تسمح له بإغداق الحبّ عليها، أحبّني أنا، فأقبلت على حبّه كما أقبل على قرنِ الآيس كريم، ألتهمه، وأتلذذ بمذاقه، وبلعقه. الآن أدرك قسوة الحياة وهي تسلبه باكراً مني، وقفت تتحداني، وأنا في الثالثة عشرة من عمري، ما اشتدّ عودي بعد حتى تقارعني.

سنوات أربع مرّت على انفجاره وتناثره، ولا يزال ألمه عالقاً في حنجرتي.

حين كنت أتفق، وأصدقائي مالك، وصبا وجنى وبشّار على النزول إلى بيروت، كان يصرّ أن يكون سائقه الشخصي في خدمتنا، يلبّي كلّ طلباتنا، ويبقى حارساً أميناً لنا، لكننا كنا نتفنن بالهروب منه بمجرد أن يتوقّف في الباركينغ في وسط المدينة. كنّا نقفز سريعاً من GMC السوداء طالبين منه أن يلحق بنا عند [Scoozi] سكوزي مثلاً، ويقضي المسكين وقتاً، وهو ينتقل من مكان إلى آخر يبحث عنا، ونحن نبتكر خططاً للتخفي والابتعاد، مرة تركنا هناك، فركبنا سيارة تاكسي نقلتنا إلى الـ ABC في منطقة الأشرفية لنشاهد فيلم هاري باتر، [Harry Patter] ، وبقي هو ينتظرنا في الوسط التجاري. عند الخامسة عصراً اتصلت به، أخبرته بمكاننا، طالبة منه أن يعود بنا إلى المنزل. أظهر غضبه وضيقه، لكنه لم يجرؤ على إخبار جدّي، هدّدته أَن أخبر أمّي، إن فتح فمه بكلمة، وهو الذي يعرف جيّداً غضبها وحنقها.

كانت الأيام جميلة، وجدّي على قيد الحياة، أحياناً تعاودني تلك العبارة البغيضة التي خرجت من فم أحدهم إثر احتفال التأبين، فأحاول إسقاطها من رأسي... خمس سنوات مرّت، سأنهي دراستي الثانوية هذا العام، وأتخرّج من دون وجوده إلى جواري، أحياناً أحلم به يداعبني، ويجلسني في حجره، بعد ذلك، يرميني في الهواء عالياً عالياً، يدغدغني وهو يتلقاني فتنطلق ضحكاتي صافية، ترنّ في أنحاء المكان. علّمني ذاك العملاق كيف أحبّه نقطة نقطة، كان إنساناً آخر وهو معي، وأنا بين يديه.

اشتدت علاقتي بمالك بعد رحيله، يواسيني فترات طويلة في النهار، يفهم غضبي، يشفق عليّ من توتر علاقتي بأمي، يحفظ نكاتاً ذكية يلقيها في أذني حين يلقاني عساني أنسى حزني، وإحساسي بيتمي. وحين أتغيب عن المدرسة لمرض أو عارض لا يهدأ هاتفي أبداً، طوال الوقت يرسل SMS عبر هاتفه، يخبرني أنّه لا يفقه شيئاً من شرح الأساتذة، يضع هاتفه تحت الطاولة، ويروح يضغط الأزرار المرّة تلو الأخرى، وأحياناً يشتاق إلى صوتي كما يخبرني، فيدخل الحمّام ليحادثني من هناك بصوت خافت.

وأنا مرتبكة دائماً، يربكني فقدُ جدّي، وغياب أمّي، وذهول جدّتي، وتربكني وحدتي، أحياناً أمقتها وأتمنّى لو كان لي إخوة كثر يشاطرونني هواجسي، وأخرى أستمتع بها، وأحسّ بمساحة الحرية التي تتيحها أمامي.. صديقي صوت رهانا Rihanna التي أحسّ أنها تغني عني، أو لي، أو أنّ صوتها يخرج من فمي، ويفضح نفسي.

الصفحات