كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب السيف والرصاص
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
السيف والرصاص
وأعدت النظر كرة أخرى عسى أن أكون أخطأت في تحديد مكان الدكان، لكن لا مجال للريبة والاحتياط. لا بد أن يكون الحاج عمر في ذمة الله، ذلك أنه من المستحيلات السبع أن يتخلى عن تجارته وعن شلته إلا بالموت. هل أذهب إلى المقهى؟.. قد أصادف النادل الشهير؛ العقيبة، طبعاً سوف يتعرف عليّ فوراً، فالمرء بعد الثلاثين من عمره قلما تتبدل ملامحه العامة.. هل سيدعوني الشيخ بوعزيز؟.. لقب الشيخ ظل يطاردني حتى داخل السجن.. وراعني أمر لم أتفطن له حتى اتخذت مجلسي في المقهى صوب العين؛ لقد جفت العين، ولا تلفظ من فوهتها المعدنية التي كانت منذ سبع سنوات فقط تتدفق شلال ماء من زلال.. لا تلفظ اليوم من فوهتها الكبيرة غير قطرات ضحلة مخزية لا تغني.. لا أحد وراء المحسب.. من فتح المقهى إذن؟.. وغمرني بعض الإحساس بالراحة المشوبة بالحذر، هذه الخلوة تسمح لي على الأقل بتغيير الجوارب المبتلة قبل أن يلمحني أحد..
خلعت الحذاء فانتشرت رائحة الجوارب المبتلة العفنة في المكان.. لبست جوارب نظيفة كانت في الحقيبة، هل أرمي بهذه الجوارب المبتلة؟ إنها جديدة تقريباً ما عدا ثقبين صغيرين عند رؤوس الأصابع، لا أستطيع أن أضعهما في الحقيبة وهما بهذا الابتلال والعفن.. لو كانت العين جارية لغسلتهما.. من أفضال السجن على المرء أنه يعوده الاعتماد على النفس في تدبير شؤونه الشخصية وعدم الاتكال..
وفيما أنا قائم أهم بالخروج لرمي زوج الجوارب في القمامة، نتأت من دورة مياه المقهى جثة ضخمة تملأ الباب وتدفع به إلى القاعة.. كانت الجثة المتحركة تواصل ربط حزام السروال الفضفاض..
من شدق الجثة المتحركة الغليظ، انبعث صوت مفرقع مثلما تتفرقع الأوحال الحمئة وقد سقط عليها جسم ثقيل تفرقع في كل صوب:
- ما هذه الرائحة الكريهة؟.. هيا سي محمد هز جرابك!..
محمد خذ حقيبتك؟.. ماذا كان يعني ذلك الكاتب؟.. هل هذا هو المعنى؟.. الاحتقار.. احتقار المالك المقيم للوافد غير المرغوب فيه؟.. احتقار القوي للضعيف؟.. احتقار السمين للهزيل؟.. هممت أن أشرح.. لكن مخلباً همجياً كان قد انقضّ على الحقيبة المحمدية المتواضعة، وألقى بها من الباب إلى الخارج.. نظرت شزراً إلى الجثة المتحركة، لكن ماذا أستطيع أن أفعل مع هذا الثور المموث الخارج من ثلوج الأدغال المتجمدة في شمال كندا؟.. بإمكانه أن يقذف بي كما قذف بحقيبتي إن نطقت. لملمت قدمي في الحذاء المبلول، ووثبت إلى خارج المقهى الممقوت. تأبطت الحقيبة الحقيرة واتجهت إلى ميضأة الجامع.. كانت فرصة لإقامة صلاة الصبح، فقد انطلقت الحافلة من المدينة قبل أذان الفجر بأكثر من ساعة.. استقبلتني الميضأة برائحة خبيثة؛ تتألف من بيتي خلاء ومن حوض للوضوء.. على حافة الحوض عدة أوعية لرفع الماء علت جوانبها الأوضار من كثرة الاستعمال.. في الميضأة كلها مصباح وحيد يتدلى ناعساً من لوحة السقف القرميدي المثقوب..
وضعت الحقيبة على حافة الحوض، وملأت أحد الأوعية الذي بدا لي أقل اتساخاً، واتجهت إلى أحد بيتَي الخلاء، كان محتقناً.. عدلت إلى الثاني، كان مسدوداً حتى فاض منه السائل الهلامي المارج من أبوال وغائط وماء وكاد يلامس الباب.. عدت مضطراً إلى البيت الأول، فحجت قدمي كالبهيمة محاولاً تجنب النجاسة الطافحة.. كان الأمر عذاباً. أردت أن أسبغ الوضوء لكني استنكفت من مياه الحوض، فلم أتمضمض، ولم أستنشق، واكتفيت بشعائر الوضوء الأخرى. كم من صلاة أديتها من غير وضوء مكتمل في ظروف مشابهة حين كنت صبياً؟!.. ولكن ما دام المجتمع عنك راضياً، وهو يراك تتدافع مع المتدافعين للصلاة في الصفوف الأولى فلا لوم.. منذ الصبا نتعلم القيم الصحيحة، كما نتعلم معها الرياء الذي يشوب تطبيقاتها..
كانت أركان مسجد أهل الكهف مضاءة بالشموع، التي تقدم قرباناً كل ليلة جمعة. يقال إن الحاج عمر كان يبيع كل شمعة عشر مرات تقريباً قبل أن يأتي دور الشمعة لتوقد، ذلك أن قيم المقام يجمع كل الشمع الفائض، ويعيد بيعه بأرخص ثمن للحاج عمر، ويبيعه الحج عمر بدوره للزبائن الذين يقدمونه قرباناً إلى المقام المحمود، وهكذا دواليك، تقوم كل شمعة بالسعي عشرة أشواط بين الدكان والمقام، قبل أن يستقر بها الشوط الأخير في الشمعدان.. وقل مثل ذلك في كتل بخور الجاوي. ومع ذلك فالمقام مزدان أيضاً بثريات عظمى يتلألأ بعضها بأنوار تكاد تحرق طلاء الجدران والأعمدة الرخامية وألوان الزرابي المبثوثة على طول أرضية مصلى المسجد وعرضه، مع أنه لم يكن بالمصلى غير شيخين بلغ بهما الكبر مبلغه، يتكئان إلى الجدار قريباً من المدفأة، في يد كل منهما سبحة يطقطق بها تسبيحه، فيما عيناهما شبه مغمضتين.. قد يكونان الإمام والمؤذن؟.. وفي هذه الحالة يكون المقام العتيق قد فقد إمامه الشهير محمود الدنفوري، ومؤذنه الذي هو من العائلة نفسها، أي أن المقام فقد طاقمه القديم، واستبدله بطاقم خدمة جديد لا أعرف أفراده.. كان محمود الدنفوري سمحاً طيباً كثيراً ما يتنازل لغيره من علماء الزواتنية لإمامة الصلاة في حضوره، ولاسيما لأخيه المعلم محمد الطيب، الذي يدعوه تلاميذه بالديك المروَزي بسبب الشح الذي يطبع حياته..
أقمت صلاة الصبح في عجلة من غير تطويل ولا ترخيم للصوت. ولم التنطع ما دام ليس هناك في المسجد جمهور يسمعني أو يلحظ صلاتي؟.. سلمت، ورفعت حذائي، وتأبطت الحقيبة وغادرت مردداً في سري بعض الأذكار والأدعية، كما لو كنت متعجلاً من أمري.. وتذكرت ملصقاً على أحد الأعمدة في المدخل، كنت قد رأيته، وتركت قراءته لما بعد الانتهاء من الصلاة، فعدت أدراجي إلى العمود، فإذا الملصق كان قد مزق واختفى بقدرة قادر.. لم يبق منه غير رأسه يشير إلى الجهة التي صدر منها، اتحادية الشعبة، جبهة التحرير الوطني..
لاتزال بقية السيل يلحس قارعة الطريق وتلامس أطراف الرصيف، تاركة ما جلبه من تراب وحصى هنا وهناك في أشكال تشبه ألسنة رطبة تنز ماء..
اتجهت إلى مقهى جديد يكاد يجاور مقهى العين الذي طردت منه منذ قليل شر طردة "مقهى الألفين".. لم أفهم في البدء معنى التسمية، هل هي تثنية ألف الهجاء، أم هي تثنية الألـف، أي سنة ألفين، واستقر فهمي على هذا المعنى الثاني، فصاحب المقهى يستشرف المستقبل البعيد. كان مقهى مكيفاً مدهشاً حقاً.. أبوابه الزجاجية تفتح وتقفل مستديرة مثل أبواب البنوك.. الأرضية مبلطة ببلاط براق كالمرايا.. الجدران موشاة بسلسلة من الأعمدة الحاملة لأقواس منمنمة متصلة تلمع لمعان الذهب، وكذلك كان المحسب البراق.. لم يكن في المقهى طاولات، وإنما هي موائد مستديرة وحولها أرائك متأنقة طريفة. وتساءلت في سري، ترى من يكون صاحب هذا المرفق الفخم الجديد الذي لا شك أنه المقهى الأول على مستوى الشعبة؟. قبالة الباب كان ثمة ثلاثة شخوص بربطات عنق يتحلقون حول مائدة، يحتسون القهوة ويدخنون ويتناجون. جلست إلى أقرب مائدة منهم، جاء النادل يسعى في سترته القرمزية ذات الأزرار والأشرطة الذهبية الفاخرة، كما لو كان ضابطاً طالباً في كلية شرشال العسكرية في حلة استعراض التخرج، قال والابتسامة العريضة تملأ فاه، والسعادة تنضح بها عيناه: