قراءة كتاب السيف والرصاص

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السيف والرصاص

السيف والرصاص

كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

- تزوج أم لم يتزوج بعد؟..

- استبيت ليلة الجمعة بمريومة، حرم سرِيْولة إن شاء اللهّ!..

ولأني لم أفهم شيئاً كففت عن السؤال، ولم أعاود سؤالي إن شاء الله!.. إذ كيف يتزوج امرؤ من امرأة في رقبة آخر..

أكان ذلك ما يعنيه الشيخ حسن بقوله ".. ذلك سفاح وفتك.." في المقهى منذ حين؟..

لا بد لوالدتي إذن أن تتظاهر على الأقل بقدر من التحقير والاشمئزاز، وهي توجه خطابها لهامل، وتتجنب النظر إليّ ممعنة في تجاهلي ومقتي:

- لماذا فتحت الباب؟.. ولماذا سمحت له بالدخول؟..

ألقيت في لامبالاة مطلقة وغريبة حقيبتي، إزاء الجدار قريباً من باب الغرفة، وعركت لحيتي بأناملي كأنما أمشطها.. كان هناك مقعد صغير وسط الحوش لايزال ظهره مبتلاً بعض ابتلال.. جذبته وجلست قبالة الشمس متجاهلاً تشنج الأم وتعصبها. وبحركة آلية أخرجت كيس نشوق التبغ ورميت برفعة إلى حنكي ".. ما أحره تبغاً، وما أمره موقفاً!..".

هكذا إذن سبع سنوات بلياليها قبل أيامها من سجن ظالم، ليس فيه أي تهمة ثابتة شرعاً وقانوناً، ولا أقول واقعاً لأن ذلك سري الذي شملتني به رحمة ربي، ومع ذلك ها هي الأم ذاتها تقع في أحبولة الرأي العام المفبرك، أو قل التواطؤ العام، أو هذا ما تبدى على الأقل..

وقال هامل في تردد يخاطب الأم: "هل آتيه بالقهوة؟..".

لكن الأم استمرت في تمثيليتها القاسية، فردت بحزم وشراسة: ".. وأي قهوة؟.. قلت لك لماذا تركته يدخل أصلاً عليّ في بيتي؟..".

كان استفزازاً كافياً لكي أنهض وأنصرف.. ولكن تصميمي على أن ألعب دور العته، شجعني على محاولة تجاوز هذا الصدود المفتعل من الأم.. ورفعت عقيرتي بأغنية عتيقة انتشرت أيام الثورة التحريرية مطلعها: ".. اللفاس يا سي عمار.. اللفاس يا سي عمار!!..." أي أعطه حرية الفعل والحركة.. بعد أن وضعت كلتا يدي على أذني كلتيهما على طريقة المؤذنين للصلاة.. وقهقه هامل ساخراً سخرية مريرة من حال أخيه.. لقد فهم بطريقة ما، أن أخاه بوعزيز قد ودع عقله.. لقد جن.. فمثل هذا السلوك الأخرق لا يأتيه غير من فقد عقله، لاسيما وأنه يكون قد لاحظ أنه حين احتضنني لدى الباب لم أوله بدوري أي اهتمام، وبادلته عدم اهتمام بعدم اهتمام.. لقد أوحيت له بأني خارج الزمان والمكان، فإذا أضيف إلى ذلك غرابة لحيتي وصيحتي المفاجئة بالأغنية الثورية، كان أمر الجنون مؤكداً، خصوصاً وهو لا يعرف عني في صباه إلا الحزم والوقار، إلا ما كان من سقطة براميل الصغيرة بنت خالتي..

لكن حس الأم كان أعمق من أن تنطلي عليها لعبة أحد أبنائها، وهي التي خبرتهم، وعرفت منازعهم وشقاواتهم منذ الطفولة المبكرة، ولطالما مثلت أمامها في الطفولة أدواراً مصطنعة كالتمارض ونحوه للتخلص من واجب أو للتهرب من عقاب، وقد كانت تستسلم لتلك الأدوار وترحمني على الرغم من أن اللعبة لا تنطلي عليها.. لقد أدركت في صيحتي التحررية تصنع العته، وفهمت الموقف، وقالت لهامل متراجعة عن تعنتها ".. أنظر، إن كان هناك فضل من قهوة فآت بها..".

وحين غادر هامل وتوارى في المطبخ، استفهمتني من دون أن ترفع إلي ناظرها وقد تسمرت في مجلسها، وبصوت خافت رخو أقرب إلى الهمس:

- متى أطلقوك أيها الشقي؟.." وإذ أخلدت إلى الصمت ضارباً صفحاً عن الكلام، ورحت أنتف شعرات لحيتي في عبث، تنهدت بعمق، وأضافت في غضب صريح:

- تجنن كما تشاء.. مات أبوك كمداً بسببك.. ضيعتنا، وضيعت نفسك.. ضيعت بيتك.. ضيعت أبناءك.. ضيعت كل شيء.. ألا تعلم أن بنت الزواتنية تزوجت، وأن صخراً وشهيرة يعيشان كاليتيمين لدى أخوالهما الزواتنية ولدى خالتهما مرزاقة.. واصل جنونك إن شئت، لم يبق شيء..

صفعتني بهذه الحقائق، مرة واحدة من دون أن تترك لي أي شك في ما يراودني عن نوارة.. نعم هي طلبت الطلاق، ووقّعت على الموافقة في الحبس. وظننت أن الطلاق بالنسبة لها ضرب من الانتقام مني، لأني طعنتها في الصميم بخيانتي الزوجية لها كما بلغوها، وحسب ما تؤكد الإشاعة التي تؤول وتختصر أسباب اعتقالي وسجني.. لكني ظننت أنها لن تذهب بعيداً، وأنها سوف تسعى بحثاً عن العمل وتبقى لولديها لترعاهما ولا تتزوج.. أما أن تطلق لتتزوج، فهذا يتعدى حد الانتقام إلى فعل الإجرام..

حاولت أن أستمر في التمثيل، فرفعت مجدداً عقيرتي: "اللفاس يا سي عمار.. اللفاس يا سي عمار.." وكان ذلك إنذاراً عاصفاً بانفجار بركان النواح المعهود عن الصادة والدتي..

علا نحيبها ودمدم، كما دمدم يوم موت علجية، تلعن اليوم الذي جاءت فيه إلى الحياة، وتلعن حظها المنكود الذي آل بها إلى هذا الدرك الأسفل، وتستفز الأولياء الصالحين أمثال سيدي الحملاوي وسيدي السعداوي وسيدي عبد القادر الجيلاني... الذين خانوها، ولم يقفوا مرة واحدة إلى جانبها في محنها المتتاليات.. وخرج هامل من المطبخ يشتم ويلعن، وقد خرج عن طوره، وذهب عنه ذلك السمت الديني المرائي الذي كان يخاطبني به في السجن حين زارني، ولم يعر اهتماماً لوجودي، وكان قبل السجن يهابني ولا يجرؤ أن يتفوه أمامي بمثل ما سمعت أذناي الآن، باستثناء ما بدر منه يوم واقعة سقوط براميل الصغيرة ابنة خالتي حين قلمت أغصان الدالية من غير توفيق. يقول في عقوق:

- أف لك من عجوز.. اسكري أخذتك سكرة الموت مرة واحدة.. نصبح على الندب والنواح، ونمسي على الندب والنواح. أسكتي أيتها البومة المشؤومة..

وتمادياً في تصعيد الموقف، وحتى أجبر هامل والأم على الاعتراف لي بالعته والجنون، نهضت إلى الجدار مبتعداً عنهما خطوات فقط، وأعطيتهما بظهري، وأخذت أتبول على جذع شجرة تين ذكري لا تثمر كان الوالد رحمه الله يتهددها كل عام بالقلع ثم لسبب من الأسباب لا يفعل.. ، وأنا أردد الترنيمة الثورية في حبور.. كان الموقف ينضح بالاشمئزاز والقسوة وسوء الأدب، لكن لا بد لي من هذا الجنون لمواجهة ما ينتظرني من مواقف لا أقدر على التصرف فيها بصفة الرشد والوعي. إن في ذلك المزيد من الإذلال والتنكيد، وأنا اليوم لست في حاجة إلى المزيد من التشنج.. أنا اليوم شبه مريض في حاجة لمن يتفهمني، حتى أنتقل شيئاً فشيئاً للعودة من جديد إلى المجتمع والاندماج فيه.

أن تسلب من الإنسان سنوات سبع من عمره وتسلخ منه سلخاً، كابوس فظيع يصعب التخلص منه في يوم واحد.. فما بال أقوام يريدون أن يعقدوا لي محاكمة جديدة.. زررتُ السروال، وأحكمت غلق أزرار المعطف، ورحت ألتمس باب الخروج من دون أن آبه لعويل الوالدة، ولا لشتائم ولدها العاق.

لايزال صياح الأطفال يتعالى من صحن بيتي المسكون، أتكون الصغيرة بنت خالتي زينب قد أنجبت؟.. لم تكن لدي أي نية في طرق الباب.. لقد خرجت من غير وجهة، ما عدا التخلص من عويل الأم الممض.. لكن، ها هو بلقاسم بن خلاف زوج الصغيرة يخوض وسط أوحال الزقاق، ولا يحتاط لتجنبها.. عليّ أن أستمر في عتهي وجنوني.. يجب إذن أن أسير على غير هدى، وأن أخوض في الوحل ولا أتحاشاه وإلا اعتبرت عاقلاً..

الصفحات