أنت هنا

قراءة كتاب رقصة الغجر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رقصة الغجر

رقصة الغجر

كتاب " رقصة الغجر " ، تأليف محمد أحمد عسيري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

أوجاع علي أمقاسم

لم يحدثني يوماً عن وطنه..

كنت أسمعه يقول : الأوطان التي نهرب منها نهاراً ونعود إليها خلسة مع العتمة لا نستحقها. إلا أنها تغفر.. لا تحمل بين تربتها أحقاداً كما نفعل مع بعضنا.

لم يكن يحمل أوراقاً تثبت أنه على قيد الحياة.

مجرد صورة قديمة كانت ترافقه باستمرار لشاب نحيل يقف على صخرة كبيرة ومن خلفه أشجار كثيفة.

لم يخبرني عن ذلك الشاب..

ولا عن المكان..

ولا عن سر الصورة التي لا تفارقه..

مع الفجر يخرج إلى مزرعته كريشة طائر.. يفرك وجه الصبح بلحيته وخشونة قدميه.. يدوس التراب البارد برفق وكأنه يخشى عليه الاختناق.

ينحني بجذعه نحو الأرض كعاشق أسمر، ويثني ركبتيه ببطء ويتناول حفنة من نباتها يضعها في جيب قميصه الأبيض وهو ينشد لحناً من شجن.

يقول : فوق هذه الأرض وقفت صغيراً، وعليها تناولت سنيني، وها أنا اليوم أستقبل نهاراً قد يكون الأخير.

ما أصعب أن تودع كل الأصوات التي كانت تسامرك، وتغني معك، وتناديك عندما تبتعد لتعود من غيابك.

تدفنهم بيديك، ومن ثم تدير ظهرك عنهم وكأنهم لا يعنون لك.. إنها حياتنا نشم فيها اقتراب الموت كما نشم المطر.

علي أمقاسم..

شبح بسيط من زمن المطحونين في الأرض. عندما يحكي عن زوجته التي سرقها الطاعون فإنه يموت آلاف المرات.. لا يتوقف عن فرك عينيه بشموخ الذين يؤمنون بأن البكاء على الأحبة لا يجلب العار. ما زال يتذكر شجرة الريحان التي غرستها إلى جوار باب الدار الذي تكوّن حولهما من ألواح وأعمدة خشبية وبعض الحبال البالية.

كان دائماً ما يردد أنه على مشارف الموت، لم يعد لديه متسع من العمر ليحلم..

وأنه لو كان باستطاعته أن يحلم لتمنى أن يلحق بشريكته ليهديها ريحانتها التي كبرت لتغرسها إلى جوار ريحانة الجنة التي أهداها الله.

قبل الغروب يمشي طويلاً وكأنه يعيد حساب خطواته التي نسي أن يحسبها ؛ لأنه فقدها من شدة العطش والجوع والخوف.. وربما لحزنه على من سقطوا خلفه.

عندما خرجت من قريتي أقتفي أثر المدينة كان لايزال ظلاً يقترب من ساعات الغروب الأخيرة. يجلس طويلاً إلى جوار شجرة الريحان وعندما تشتد الشمس ينتقل ليجلس في ظل جدار بلا ملامح. ظلُّ عجوز يجلس في ظل جدار أوشك على الفناء. لا يتذكر الوجوه كثيراً ومع ذلك هو يبتسم لها وكأنه يأذن لها بعناق أخير ينهي عطشها بعد مشوار طويل من الجفاف.

يقولون إنه اختفى، بحثوا عنه ولم يجدوه.

يروي ناصر الأعرج أنه آخر من شاهده يمشي نحو الغروب كعادته قاطعاً طريق الوادي نحو الأسفلت، ولم يعد بعدها.

ربما أنه عندما شاهد الصباح توكأ على أول ضوء عابر.. ومضى دون أن يلتفت إلى أوراقه التي بعثرتها الريح، والآن لا شيء، مجرد ظل واختفى.

وفي المساءكانوا يتحدثون عنه، يقولون إنهم شاهدوه خلف الظلام كطيف أبيض .. كركام الورق المنثور.

كان مجرد ظل يجلس في ظل.. والظلال لا تبقى كثيراً، ترحل دائماً مع الشمس والضياء. حتى الريحانة التي كانت تغازله برائحتها وأغصانها كلما مر إلى جوارها نفضت أوراقها وانحنت حزناً عليه.

لا أحد يعرف إلى أين ذهب علي أمقاسم والأسفلت الذي أغواه لا يجيب.

الصفحات