أنت هنا

قراءة كتاب رقصة الغجر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رقصة الغجر

رقصة الغجر

كتاب " رقصة الغجر " ، تأليف محمد أحمد عسيري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

تحولات كائن حي

لم يكن باختياري أن أكون كائناً بشرياً له بشرة داكنة. لم يسألني أحد ما إذا كنتُ أرغب بالخروج إلى هذا العالم المأسوي أم لا.. لأكون شاهداً على الكثير من الألم. ولدت كغيري من البشر بطريقة بدائية على يد قابلة سمراء جميلة تسمى (دوكة). خرجت معتلاً أقرب إلى الموت مني إلى الحياة.. ولكن دوكة ـ كما أخبرتني أمي ـ ضربت بيدها ثلاثاً على ظهري وأخذت تدعو لي أن يطيل الله في عمري ولو على حساب عمرها. ومن يومها وأنا أطوف السنوات سقوطاً ونهوضاً.. بينما دوكة التي اعتنت بي تركت راضية مرضية ما تبقى من عمرها ورحلت. هي أيضاً لم يسألها أحد قبل أن تموت عن آخر رغباتها وما إذا كانت قد ندمت على أمنيتها وهي تضرب على ظهري!

حتى عندما بدأت مراحل الدراسة كنت أصغر بعام من السن النظامي ؛ لأن أخي الذي يكبرني بعامين رفض عبور بوابة المدرسة بمفرده خوفاً من وحشة الوجوه العابسة.

وافق مدير المدرسة استثنائياً على قبولي لأن والدي وقف طويلاً يترجاه أن يقبلني حتى لا تضيع سنة أخرى من عمر أخي. بينما أنا لم يسألني أحد ما إذا كنت أود الاستغناء عن تلك السنة من عمري والزج بها بين طاولات الدراسة، أم أني أفضل اللعب مع الطين البارد عند الصباح.

كم هو مؤلم أن يضحك الطلاب عليك لأنك لم تستطع نطق كلمة (حيوان) في درس الهجاء ونطقت عوضاً عنها (حلوان) ليسخط عليك المعلم وينهال بعصاه على جسدٍ هرب للتو من الموت. لم يسألني المعلم ما إذا كنتُ أتألم من سياطه، بينما هو يشتد ألمه كلما أخطأت عصاه يدي. حتى وهو يغادر الفصل وأنا في زاويتي أطوي يدي تحت بطني ألماً لم يتقدم نحوي ليسألني ما إذا كان قد قسا عليّ كثيراً..! بل خرج منتصراً يجر عصاه على وجه الأرض وكأنه يطهرها من جسدي.

عندما عدت إلى البيت لم أجد أبي لأشتكي له.

نسيت أنه يعمل طويلاً.. لذلك فضلت أن أحتفظ بأثر العصا على يدي إلى حين عودته.. قبضت على تلك الخطوط الحمراء المتشابكة خوفاً من تواطؤ العصا والجلاد.

لم يكن باختيار أبي كثرة غيابه عن البيت لأنه كان ملزماً بسداد إيجار المنزل الذي نسكنه، وتأمين احتياجاتنا في زمن لا يؤمن بغير اللصوص. أبي لم يحاول يوماً أن يصبح لصاً.. لذلك كان ينفر من كل الأعمال التي تتطلب التحايل والكذب ويرضى بأعمال شاقة كأن يحمل الأشياء الثقيلة من وإلى المستودع أو كنس الممرات والمكاتب.. لذلك نحن حتى اليوم لا نمتلك منزلاً. دخلت يوماً خلسة بحثاً عنه فأمسك بي حارس الباب وقبل أن يسألني عن سبب دخولي صفعني على وجهي وألقى بي خارجاً. كنت أحاول وأنا أتعثر بخطواتي إخباره بأن أمي تتألم في المنزل من جراء الولادة وتريده أن يحضر جدتي. أذكر أني صرخت وأنا ممدَّد أمام المارة وقلت للرجل الذي ساعدني على النهوض إن أمي تبكي.. ولكنه تابع طريقه بعد أن نفض عن ملابسي تراب الطريق.

حتى عندما كبرت قليلاً اكتشفت أني رجلٌ بلا وطنٍ، وبلا عنوان، ولا خريطة تحيط بي من جهاتها الأربع.. فمنذ اهتزاز الشعر في وجهي وأنا أبحث عن حدودٍ و تضاريس وعرة ترهقني، و عن مناخٍ شبه معتدل. كبرتُ كما تكبر الكثبان وأنا أسأل الرمل عن لون البحر.. هل حقاً إنّ لونه أزرق؟ أم أنه يستعير من السماء زرقتها؟ لذلك أنا أغار من صديقي الذي يهاتفني كل مساء من فناء موطنه وهو يشوي الذرة الصفراء، ويقبل أمه قبل أن ينام بينما أنا لا أنام ؛ لأنني أظل مستيقظاً أتوسل إلى سرب طيور موحد اللون يزورني كل شتاء هرباً من الموت كي يخبرني إلى أي الجهات يشرق وجهي؟ فكل الخرائط تقول لي: أسلك ذاك الطريق.. هناك وطن يشتري فتية شارفوا على الموت، يمنحهم لوناً للحياة، ونجمة يستدلون بها كلما تخلت عنهم أوطانهم وعادوا غرباء. اعتدت السقوط في حفر الحياة وكأني أبحث عن مكان أستريح فيه قبل النهوض مجدداً دون أن أنفض عن ملابسي التراب كما فعل معي ذلك الرجل الطيب.

الصفحات