أنت هنا

قراءة كتاب سكينة إبنة الناطور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سكينة إبنة الناطور

سكينة إبنة الناطور

كتاب " سكينة إبنة الناطور " ، تأليف سلمى حداد ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

عهد أبو جاسم بتربية الصغير إلى جدَّته من جهة أمه، وأدار ظهره لكل ما جرى. وانتقل ليقطن في دمشق بعد أن عقد قرانه على أم مرزوق بعد مرور أربعين يوماً على وفاة أم جاسم بحجة أنه رجل وله متطلبات ولا يقبل الحرام ويشعر بالوحدة وأعزب دهر ولا أرمل شهر، ويجب أن ينتقل بسرعة للعمل في دمشق وووو. كان يرسل للجدة أم فتوح في كل سنة كبيسة حفنة من الليرات لا تكفي خبزاً وماء لجاسم، وعندما كانت ترسل إليه مراسيل القرية تستصرخ ضميره وتطالبه بمزيد من النفقات كان يتجاهلها متذرعاً بعمله البسيط ودخله المحدود وأسرته الكبيرة. سئمت أم فتوح مطالبته وتهربه منها فتوقفت عن إرسال المراسيل بعد أن أيقنت أنها تستنجد برجل أصم أقفل أذنيه عن صراخها تماماً مثلما أقفلهما عن صراخ ابنتها حين كانت غارقة بدمائها. لا حول ولا قوة إلا بالله. استعانت أم فتوح بالله على الشقاء وأخذت تبحث عن عمل في الحقول والمزارع المجاورة يستعين بها أصحابها أيام القطاف في جميع المواسم الشتوية والصيفية، وهكذا تدبرت أمرها وأمر حفيدها.

نشأ جاسم في جو تحريضيّ. فأم فتوح لم توفر مناسبة لتأليبه على أبيه وتلقينه أدق تفاصيل وفاة أمه وزواج أبيه بعد وفاتها بأربعين يوماً وامتناعه عن رعايته وإرسال المصروف إليه وما كابدت –وهي الأرملة الطاعنة في السن- من مشقات ومهانة حتى أوصلته إلى الثانوية العامة. فكان خير تلميذ لأحقادها يحفظها عن ظهر قلب ويراجعها قبل كل اختبار فينجح فيها بامتياز. ولم يقتصر حقده على أبيه الذي لم يجرؤ أن يجاهر به يوماً، بل انسحب على إخوته ليظهر على شكل عدوانية تصل في حالات الغضب الشديد إلى حد الضرب الذي كان لسكينة منه حصة الأسد. فسكينة لم تكن يوماً النموذج الذي يروقه لا بطريقة تفكيرها ولا بطموحها ولا بحبها لعلمها ولا باختيارها لصديقاتها، فكان ينظر إليها بعين الخشية والحذر والريبة دون أن يغفل أهمية تحريض والده عليها كلما سنحت الفرصة بذلك في محاولة لإقناعه بإخراجها من المدرسة وتزويجها لأول طارق باب يستر عليها. وكانت سكينة تلعن في سرها حظها العاثر. لقد كانت تراه لماماً في السابق، أمّا وقد نجح في امتحانات الثانوية العامة فقد انتقل للعيش معهم في دمشق ليلتحق بجامعتها في كلية الحقوق بمنطقة البرامكة.

أصدر أبو جاسم شخيراً قوياً أتبعه بسلسلة صفيرية فارتجف قلب سكينة. ماذا لو استيقظ والدها الآن وعلم أنها لم تنم بعد؟ ماذا لو علم أنها كانت تقرأ قصة من خارج المنهاج وهو الذي لم يقتنع يوماً بالمنهاج نفسه؟ ماذا لو دخل إلى تلافيف عقلها فعرف أنها تفكر في أفروديتا وتحلم بالحب؟ ماذا لو فحص مجهرياً خياشيمها وقفصها الصدري ورئتيها فتأكد من مرور عطر الياسمين فيها؟ ماذا لو أخبر جاسماً بالأمر؟ كل واحدة من هذه «اللماذات» جريمة يعاقب عليها قانون جاسم وأبيه بالإعدام، وما أسهل أحكام الإعدام عندهما! تمنت لو ترمي بنفسها في حضن أمها تحت الغطاء الصوفي المشبع برائحة عرقها المغزول بإتقان مع رائحة الثوم والبصل ريثما ينبلج نور الصباح فتلتقي هديل لتستمد منها باقة شجاعة وحفنة من تقدير الذات الذي تفتقر إليه في هذه الغرفة الكئيبة المكتظة بالخوف، المفتقرة إلى الهواء والحرية. غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة كي لا تقلق نوم أمها التي تعمل طوال النهار دون توقف أو تذمر وألقت بنفسها بحذر في المساحة المخصصة على البساط لجسدها في وضعه المتمدد دون الإفراط بتمدد أصابع القدمين حتى لا تلامسا نافوخ حسنا أختها ذات السنوات الخمس، التي تنام تحت قدميها.

وضعت يديها فوق وجهها لتحجب عن عينيها النور القادم عبر النافذة من قنديل الشارع فشعرت بالغثيان. رائحة يديها مزيج قاتل من الثوم والبصل اللذين قشرتهما وقطعتهما لأم مرزوق كي تعد أقراص الفلافل التي اعتادت أن تبيعها للطالبات في كافيتريا المدرسة على شكل سندويشات أو أقراص مقلية مخضَّبة بالسّمّاق الأحمر. يا إلهي كيف نسيت أن تدعكهما بنقطة من المازوت كما اعتادت أن تفعل دوماً بعد أن تفرغ من عملية التقشير والتقطيع هذه؟ ماذا ستقول لزميلاتها في المدرسة لو سخرت واحدة منهن من هذه الرائحة. ستفكر في الأمر غداً، يجب أن تخلد للنوم الآن والصباح رباح.

نامت سكينة فحلمت بأفروديتا الشقراء تناديها بلغة لم تسمعها من قبل لكنها فهمت من تعابير وجهها وحركات يديها أنها تدعوها للعيش معها في أعالي جبال قبرص بعيداً عن أبي جاسم وابنه جاسم. راقت الفكرة سكينة وهي التي لم تطأ قدمها يوماً حجراً خارج قريتها ومدينة دمشق. بيد أن إمكانية بعدها عن هديل شرخت فؤادها وأصابتها بذعر غير مسبوق فأخذت تتوسل إلى الإلهة الشقراء كي تسمح لها باصطحاب هديل معها، لكن أفروديتا رفضت بحزم قاطع. وخطرت لسكينة فكرة جهنمية: التوسل لزيس كي يسمح لها أن تقضي الشطر الأول من السنة مع أفروديتا في جبال قبرص والشطر الثاني مع هديل في ربوع دمشق، فلم تحصل على جواب. قبلت سكينة دعوة أفروديتا على وضعها الراهن وقلبها ينقط مرارة على هديل لكنها عاهدت نفسها أن تأخذ معها غصناً من شجرة ياسمين لتبقي رائحة دمشق وهديل وأم مرزوق في خياشيمها، أما رائحة الثوم والبصل والفلافل المقلية فقد عاهدت نفسها أن تدير لها المنكبين دون أن تنظر إلى الخلف.

الصفحات