كتاب " سكينة إبنة الناطور " ، تأليف سلمى حداد ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب سكينة إبنة الناطور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

سكينة إبنة الناطور
استيقظت سكينة على صوت ارتطام السكين بخشبة التقطيع مروراً بمخلل اللفت الأحمر الذي كانت أم مرزوق تحشو به السندويشات إضافة إلى أقراص الفلافل والطحينة المخفوقة مع اللبن والليمون والقليل من البقدونس المفروم ورشة من السمَّاق الأحمر. كانت رائحة زيت القلي المستخدم عشرات المرات تغلف المكان بوحشيّة اقتحاميّة. فالمطبخ، الذي يُستخدم في أوقات الفراغ للاستحمام، يطل من الخلف عبر نافذة صغيرة على أرض غير منشأة، ويفصله من الأمام عن الغرفة التي تشغلها عائلة أبي جاسم للنوم والدراسة والأكل والجلوس ومشاهدة التلفزيون فتحة معدة بالأصل لباب خشبي لم تُكتب له الحياة أصلاً. أما جاسم فكان يرفل بنعيم النوم وحده في رواق صغير يفصل التواليت عن المطبخ. وقد شعرت سكينة بالحقد الشديد على نِصف أخيها عندما انتقل للعيش معهم لأنها كانت تشغل هذا المكان من قبل. فقد كان –على علله- يرحمها من سمفونيات أبي جاسم الليلية المتواصلة على كل قناة نغمة، بالرغم من أنه لم يكن ليرحمها من زياراته الليلية المتكررة إلى التواليت بحكم كونه يعاني تضخماً في البروستات... اسم لم يسمع به أبو جاسم من قبل إلى أن راجع بسبب بعض المشاكل البولية أحد الأطباء المتفلسفين، كما وصفه يوماً وهو في حالة حنق شديد. وقد حاول الطبيب أن يشرح لأبي جاسم أبعاد مرضه وإمكانية تحوله في يوم من الأيام إلى ورم خبيث فما لقي أذناً صاغية. كان أداء أبي جاسم هو شغله الشاغل فهو يريد أن يظل وجهه أبيض أمام أم مرزوق ورجولته كاملة لا يمسها عيب، أما ما يتحدث عنه الطبيب الخَرِف فهو لا يعنيه بشيء ما دام لا يؤثر حالياً في أدائه وسُمعته الفَنيّة.
نفضت سكينة غطاء الصوف عن جسدها وهبّت واقفة. لا تريد أن تتأخر عن الحصة الأولى، فهي حصة الآنسة أحلام مدرسة اللغة العربية. ما أجمل هذه اللغة وما أرقى معلمتها! قالت سكينة لنفسها. كانت الآنسة أحلام محبوبة من جميع الطالبات من محبّات وغير محبّات للغة العربية. فهي لطيفة وصارمة في الوقت ذاته، ترسم مسافة واضحة بينها وبين طالباتها دون أن تنسى أو تتجاهل يوماً أنها الأخت الكبرى لهن وأنه بإمكان أية واحدة منهن اللجوء إليها في الأوقات العصيبة التي تحتاج فيها إلى نصح من إنسانة حكيمة ومتوازنة. لم تكن سريعة الغضب ولا شاتمة ولا انتقامية في عقابها بل تأديبية تربوية، وبهذا فقد حررت طالباتها من وزر الشعور بالحقد عليها عند قيامها بمعاقبة إحداهن عن طريق تجاهلها وعدم توجيه أي سؤال لها لمدة أسبوع. عقوبة جد قاسية لطالبات أحببنها فكان ضربهن بالعصا أسهل عليهن بكثير من مقاطعة الآنسة أحلام لهن. كانت الطالبات يلقبنها بالعصفورة حين تقرأ لهن قصائد أدب المهجر وبسيبويه عندما تشرح لهن قواعد اللغة العربية وبأميرة الكتّاب عندما تعلمهن أصول الكتابة وفن الإنشاء.
ازداد تعلق سكينة باللغة العربية بفضل الآنسة أحلام وكان لسانها وفؤادها يتوجهان بالدعاء كل مساء إلى الله تعالى كي توكل المديرة هناء إليها تدريسهن مادة اللغة العربية في منهاج الفصل القادم وتموت من بعدها أو تذهب إلى الجحيم تلك المديرة السوقيّة المعتوهة. صراخ بسبب وبدونه وجدران جواهر المستقبل تنقبض من سماع حنجرة غاضبة لا تنقطع عن الصراخ: تشتم وتنعت وتهدد بالضرب والطرد والحرمان من تقديم الامتحانات واستدعاء أولياء الأمور وووو. ليتها تصمت إلى الأبد!! دعاء جماعي لطالبات جواهر المستقبل.
غسلت سكينة وجهها بالماء البارد فاقشعر جسمها. الطقس بارد.. إنها عقارب نيسان. عادت رائحة البصل والثوم تتسلل إلى أنفها عندما مسحت وجهها بيديها فتذكرت المازوت. توجهت مسرعة إلى الموقد لتسرق نقطة مازوت تفرك بها يديها قبل أن يراها أحد من أخوتها المبعثرين خارج الغرفة ففوجئت بأم مرزوق تمسكها بالجرم المشهود فارتعدت فرائصها خوفاً وتجمدت قطرة المازوت فوق يدها المثلجة رُعباً.
- خافي الله يابنتي فينا! نحن نعمل طوال الليل والنهار لتأمين العيش وأنت تهدرين المال بدون حساب؟ إلى متى يا سكينة أخفي عن والدك أفعالك؟ والله لو رأى ما فعلت الآن لقلب الدنيا على رأسي ورأسك هو وابنه جاسم.
- اخفضي صوتك يا أمي أرجوك كلها نقطة مازوت واحدة.
- نقطة وراء نقطة تصبح تنكة يا سكينة!
- أرجوك يا أمي لا تبالغي، أعدك أنني لن أكرر هذا العمل.
تبتسم أم مرزوق على مضض وتنصرف لتكمل قلي أقراص الفلافل بينما تغسل سكينة يديها من المازوت وترتدي لباسها المدرسي على عجل وتنطلق دون أن تنطق بكلمة أخرى. تدخل إلى باحة المدرسة عبر باب حديدي أسود صغير يفصل باحة المدرسة عن بيت الناطور فيتناهى إلى مسامعها صوت المديرة هناء وهي تعنّف إحدى الطالبات بأقسى المفردات وأكثرها سوقية. أعوذ بالله من هذا الصباح! يا فتّاح يا عليم! تتمتم في سرها متوجهة إلى صفها في الطابق الثاني قبل دخول الآنسة أحلام إليه بدقيقتين.
دخلت الآنسة أحلام الصف أنيقة هادئة كعادتها، ألقت تحية الصباح على طالباتها بابتسامة عريضة وبدأت بصوتها الرقيق تقرأ بعض القصائد المختارة وتعلق عليها باستفاضة ممتعة. كانت سكينة تجلس على مقعد من مقاعد الوسط بحكم كونها تتمتع بطول معقول بين زميلاتها. وكانت تسند خدها الأيمن بأصابع يدها اليمنى بينما يرتكز كوعها على طاولة مقعد يعج بالخرابيش: رسومات متنوعة، قلوب مدمّاة بسهام تحمل على كل طرف منها أول حرف من اسمي الراسم والمرسوم له، وسائل غش معتمدة في امتحانات سابقة لطالبات سابقات، مقاطع من منهاج الفلسفة، قصائد غزل، قائمة بالأفعال الشاذة التصريف في اللغة الإنجليزية، إلى آخره من اهتمامات المراهقات. لم يكن اختيار نقطة التركيز سهلاً عليها، فقد كانت مشدوهة برقيّ الآنسة أحلام وأناقتها وصوتها الحالم والقصائد الجميلة واللغة العربية الرائعة ولا تعرف كيف ترتب جدول أولوياتها أو اهتماماتها. فرغت الآنسة أحلام من التعليق على القصائد وبدأت بتوجيه أسئلتها الاستنتاجية التي تقصد منها توسيع أفق طالباتها ومساعدتهن على تطوير تفكير أدبي نقدي، فكانت سكينة افتتاحيتها.
- سكينة! هل تعتقدين أن درجة تعقيد اللغة الشعرية تزيدها جمالاً؟