كتاب " ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي " ، تأليف ليندا مطر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي
4 ـ الزواج والعائلة
كان الحديث يدور في البيت عن الشباب الذين يتقدمون لخطبتي، وفعلاً في الخامسة عشرة من عمري كنت قد أصبحت صبية بكل معنى الكلمة. رفضت جميع الخطاب، منهم الغني ومنهم المتعلم ومنهم متوسط الحال متبعة بذلك رأي والدي الذي نصحني ألا أتزوج قبل بلوغي العشرين من عمري أما والدتي فكان رأيها «زواج البنت سترتها». لكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر.
في أحد الأيام طرق بابنا شاب طويل القامة أشقر اللون ذو عينين زرقاوين أنيق.
- عذراً، قالها بالعربية لكنها بلكنة متعثرة، جئت أسأل عن شباب أرمن يسكنون في الطابق العلوي لم أجد أحداً في البيت.
- قال له والدي: تفضل تفضل يمكن أن تنتظرهم هنا سيأتون بعد قليل.
قلت سابقاً إن وضعنا المادي كان قد تدهور وكان ذلك بسبب الدَيْن الذي تراكم على عائلتي فاضطروا إلى تأجير الطابق العلوي (لهذا الطابق قصة عائلية)، إلى أربعة شبان أرمن جاؤوا من حلب إلى بيروت للعمل. وصادف كما أخبرنا الزائر أنه التقاهم في الطريق، وأنه يسكن قريباً من بيتنا وهكذا جاء لزيارتهم.
لقد فعلت هذه الزيارة التي لم تدم أكثر من نصف ساعة فعلها. أعجبني الشاب لكني لم أتصور في حينه أنه سيكون من نصيبي. إنه أرمني.
لم يكن رأي الزائر بي يختلف عن رأيي به، لقد تكلم مع أحد زملائه قائلاً: هل يمكن أن تسأل أصحاب المنزل إن كانوا يقبلون أن أنضم إليكم في السكن.
لم يمانع والدي، وبعد فترة من الزمن تطورت علاقة الجيرة فكان الشباب يأتون لزيارتنا من وقت لآخر. وفي أحد الأيام طلب أحدهم وهو أكبرهم سناً مقابلة والدي ليطلب منه باسم Puzant (*****) يدي. فوجئ والدي، وبرر ذلك بأني لم أبلغ بعد السادسة عشرة من عمري. ثم أضاف: عليّ أن أسأل ابنتي. وعندما سألني لم أجب كما كنت أفعل بعد كل سؤال عن خطيب، كلا! بل قلت له: كما تريد يا أبي. عرف والدي الجواب. بعد أشهر قليلة تلقينا خلالها رفض إخوتي لأنه أرمني ورفض أهله لأني عربية. رغم ذلك أعلنا خطبتنا. زميلاتي وتلميذاتي جئن جميعهن للتعرف على العريس وقد أعجبن به. كذلك «الرئيسة»؛ اصطحبته معي إلى المدرسة أعجبت به كثيراً وباركتني. في فترة عام تعلمت القراءة والكتابة باللغة الأرمنية وتمكنت من التعبير إلى حد ما عن رأيي وفهم ما يقوله الأهل والأصدقاء الأرمن.
كنت في السابعة عشرة من عمري لما دخلت القفص الذهبي وخطيبي في السابعة والعشرين.
طلب والداي من العريس أن يكون صهر بيت لأني وحيدتهما، إخوتي مع عائلاتهم، وهما تقدّما في العمر، فكان البيت الذي أخلاه الشباب الأرمن من نصيبنا.
وهكذا بقيت إلى جانبهما. بعد فترة شهر من زواجنا تراجع إخوتي عن موقفهم الرافض كذلك أهل زوجي.
في العشرين من عمري، أي بعد ثلاث سنوات من زواجي رزقت بابنتي الأولى وبعدها بسنتين رزقت بالثانية؛ أرمين ولوسين كانتا عالمنا. بالمناسبة لم نكن لا أنا ولا زوجي نفرق بين أنثى أو ذكر.. كنا عائلة منسجمة، وكان زوجي خير سند لي ولوالدي.
في بداية الأربعينيات كنت لاأزال متمسكة بالأفكار التي تعلمتها في البيت والمدرسة بعكس زوجي الذي كان يتابع بأهمية بالغة الأخبار السياسية والاجتماعية وخصوصاً في السنوات الأولى من زواجنا حيث كانت رحى الحرب العالمية الثانية دائرة، فكان من مؤيدي الحلفاء ضد النازية وبالتحديد الاتحاد السوفياتي حيث كانت أرمينيا تشكل جزءاً منه. وهنا لا بد من أن أشير إلى ما تعلمته في مدرسة الناصرة عن عواصم الدول في خريطة القارة الأوروبية من أن بتروغراد هي عاصمة روسيا، في الوقت الذي كانت قد أصبحت روسيا منذ العام 1917 الاتحاد السوفياتي وعاصمته موسكو.
لم يكن زوجي يرغب بأن يكون عضواً في حزب ولا أن يكون مقيداً بقرار «الأكثرية» و«الأقلية» لكنه كان من المتحمسين للفكر الشيوعي، وكان له أصدقاء شيوعيون أحدهم كان يؤمن لنا جريدة «صوت الشعب» التي كانت تصدر أسبوعياً. كنت أقرأها لأن زوجي لا يقرأ العربية. وكان يزورنا شيوعيون أحدهم ساهم في جعلي أستمع إلى الأخبار في الإذاعة. وهكذا بدأت أتلقى إجابات على بعض التساؤلات التي كانت تراودني، وكنت قد طرحتها على نفسي في طفولتي.
في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية كان العالم بأكثريته يتمنى انتصار الحلفاء على النازية، وكانت انتصارات الاتحاد السوفياتي والقضاء على جيوش هتلر على أبواب موسكو إضافة إلى معارك ستالينغراد ولينيغراد وغيرهما من المدن، قد أنعشت الأمل لدى المثقفين والعمال والفلاحين الذين اعتبروا انتصار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل أحد أطراف «الحلفاء» ضد «المحور»، انتصاراً للشعوب المناضلة من أجل تحررها السياسي والاقتصادي.
كان بعض الشباب في «عين الرمانة»، أي في الحي الذي كبرت فيه وتزوجت، يتجمعون في بيت واحد للاستماع إلى آخر تطورات الحرب. فيفرحون أو يحزنون وكنت أنا أيضاً بدأت أتعاطف معهم.
فليسمح لي القارئ أن أروي قصة لاتزال حتى الآن تؤلمني، وهي التي أضافت إلى أسئلتي سؤالاً كبيراً: لماذا؟
كان في حينا شابٌ لم يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره بعد؛ فهو متزوج وله ثلاثة أولاد بنتان وصبي، كان يعمل بأجر زهيد في أحد مرائب الجيش الفرنسي. وبعد الانتهاء من عمله كان يبيع الخبز (في الحرب العالمية الثانية لم يكن الخبز متوافراً دائماً) رغم ذلك كان عاجزاً عن إدخال أولاده الثلاثة إلى المدرسة. لقد قيل له مرة عندما حاول إقناع أحد المسؤولين عن مؤسسة الأيتام: لو كان أولادك أيتاماً لكنا استقبلناهم. لذلك كان يردد دائماً: أتمنى الموت حتى يتعلم أولادي. كان هذا الشاب، كغيره من شباب حيِّنا متحمساً جداً للاتحاد السوفياتي. رغم ذلك، فعندما كان يُعقد في الحي اجتماعٌ سياسيٌّ، لا يحضره خوفاً من أن يصل الخبر إلى مكان عمله فيطرد. لكنه كان يتقوقع وراء شباك الدار الذي يعقد فيه الاجتماع للإصغاء إلى الأحاديث التي كانت تحلل ما يجري في العالم. تعرض هذا الأب الشاب إلى حادث أثناء العمل مما اضطره للبقاء في الفراش، لم يتركه أصدقاؤه ولا عائلته، لكن الدواء الذي يمكن أن يساعده على الشفاء كان مفقوداً في لبنان. فجرت محاولات لشرائه من إحدى الدول الأوروبية. كان الجواب: هذا الدواء هو للزعماء، أعني به «البينسيلين»، وهكذا تحققت أمنية جورج ومات قبل أن يفرح بانتصار الاتحاد السوفياتي، وبعد وفاته قبلوا الأولاد في المؤسسة السابقة الذكر وتعلموا!