أنت هنا

قراءة كتاب ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي

ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي

كتاب " ليندا مطر - محطات من سيرة حياتي " ، تأليف ليندا مطر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

6 ـ درس لن أنساه

في العام 1952، وبمناسبة انعقاد مؤتمر للطفولة في فيينا بدعوة من الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، اختارتني اللجنة التحضيرية اللبنانية للمؤتمر مع ثلاثة أشخاص آخرين للمشاركة في أعماله، أذكر منهم الدكتور عدنان سلطان وعقيلته هدى سلطان. لم أكن في حينه عضواً منظماً في اللجنة. لقد واجهتني أثناء رحلتي صعوبات قانونية ومالية. في تلك الأيام كان يسجل على جواز السفر أسماء الدول التي يحق لحامله الدخول إليها. لم أنتبه وأنا في بيروت أن جواز سفري خال من اسم «النمسا». ولما وصلت إلى زوريخ، وكنت قد سافرت بمفردي لأنه كان عليّ أن أحصل على فيزا من قنصلية النمسا في سويسرا، صدمت لما علمت أنه يستحيل أن أحصل على إجازة دخول إلى النمسا.

سألت الموظفين ماذا أفعل؟ فأشاروا عليّ الاتصال بالقنصلية اللبنانية الموجودة في «بيرن» وأطلب من القنصل إضافة كلمة «النمسا» إلى جانب أسماء الدول المكتوبة على جواز السفر. وساعدوني أن أحجز مكاناً في القطار ذهاباً وإياباً. كان موعد القطار الساعة الواحدة ليلا ً فأصل إلى بيرن صباحاً، أستطيع أن أنجز عملي خلال ساعتين على الأكثر وأعود في قطار الساعة الحادية عشرة نهاراً لأصل إلى زوريخ الساعة الخامسة بعد الظهر، فيبقى لديّ ساعتان لموعد طائرتي.

كان في حوزتي بعض الدولارات التي أعطتني إياها اللجنة التحضيرية كمصروف شخصي لأن بطاقة السفر مؤمنة والإقامة في فيينا أيضاً. عملت حساب الفندق ليلتين، فتبيّن لي أني أستطيع أن أدفع ثمن بطاقة سفر بالقطار إلى بيرن فقط لا أكثر. أما الطعام فلا! لم يكن أمامي حلّ آخر. في القطار شعرت مع الذين لا يستطيعون تأمين لقمة العيش في الوقت الذي يرون العيش يرمى في القمامة. كان من الطبيعي أن يحضر المسافرون ما يأكلونه في القطار. فكنت أنظر إليهم وأتمنى أن يسألني أحدهم إن كنت أريد أن أشرب ماء. نسيت أني لست في لبنان. وصلت إلى بيرن صباحاً باكراً. لحسن الحظ أنه كان بالإمكان الحصول على معلومات من مكاتب الاستعلامات. فأخذت عنوان القنصلية اللبنانية التي لم تكن بعيدة عن محطة القطار مما سهل عليّ الوصول مشياً على الأقدام.

وصلت إلى مبنى القنصلية فوجدت البوابة مقفلة ولم أر أحداً في الحديقة التي تحيط بها. ناديت بأعلى صوتي: إني أريد أن أقابل القنصل. بعد عشر دقائق جاء أحدهم ليقول لي: القنصلية مقفلة لمدة أسبوع بسبب عطلة عيد الفصح. كدت أن أنهار، بعد هذا التعب وهذا الجوع أعود صفر اليدين. قلت له: أنا لبنانية وهناك مشكلة لها علاقة بسعادة القنصل، أرجوك أن تفتح لي الباب لأكلمه على الهاتف وإلا ستكون أنت المسؤول. من أين اتتني هذه الفكرة لا أعرف، ربما كما يقول المثل «الحاجة أم الاختراع» فتح البوابة وأعطاني رقم هاتف القنصل، اتصلت به في بيته وأخبرته قصتي. فقال لي: انتظريني سآتي حالاً.

بعد نصف ساعة وصل القنصل. كان شاباً وسيماً مهذباً متفهماً. (لم أتذكر إلا اسم عائلته «ناصيف») كتب على جواز سفري (باللغة الفرنسية) «النمسا كلمة مضافة». لكنها تختلف عن «القيمة المضافة». فشكرته وسألته إن كان يقبل الليرة اللبنانية ـ وكان معي 20 ليرة لبنانية ـ فأجابني أتمنى لك سفراً سعيداً، لا أريد شيئاً منك. ثم أرسل سائقه ليوصلني إلى محطة القطار. وهكذا عدت إلى زوريخ في الوقت المحدد وفي الطائرة الآتية من باريس التقيت بقية الوفد اللبناني وعدداً من الوفود الأجنبية. لن أتحدث عما جرى لي في الطائرة بعد 30 ساعة دون طعام. لكني كنت شابة والشباب بإمكانه أن يتحمل هكذا صعوبات.

هبطت الطائرة في مطار فيينا وكان في استقبال الوفود مجموعة من منظمي المؤتمر بينهم مندوبة سوريا في الاتحاد، عرفتني عن نفسها وفي الفندق أعطتني برنامج أعمال المؤتمر الذي كان مخصصاً للبحث بأوضاع الأطفال، وأخبرتني عن وصول عدد كبير من الوفود من مختلف بلدان العالم.

كانت المرة الأولى التي أشارك فيها في مؤتمر عالمي، معلوماتي عن هكذا نشاط كانت بدائية، خصوصاً وأنني لم أكن بعد عضواً منظماً في لجنة حقوق المرأة اللبنانية. حاولت في جلسات المؤتمر متابعة كل كلمة وكل اقتراح لكني تحاشيت الدخول في النقاش الدائر الذي كان يطال مواضيع الغذاء والسكن والتعلم والصحة والتربية وكل ما له علاقة بحياة الأطفال.

اختار المشاركون في المؤتمر الموضوع الذي يريدون إبداء الرأي فيه وتوزعوا إلى مجموعات عمل. اخترت التربية والتعليم. كان النقاش حامياً ومسؤولاً. البعض يريد حرق كل المراحل والبعض الآخر يطرح القضية التربوية بترو وهدوء.

في إحدى جلسات هذه المجموعة تعلمت درساً لن أنساه أبداً. اقترح أحد الاختصاصيين في التربية والتعليم، أن يصدر توصية عن المؤتمر تطالب بالمدرسة المدنية، وشرح وجهة نظره بالقول: إن المدرسة المدنية من شأنها أن تنشئ جيلاً ينتمي بالدرجة الأولى إلى الوطن وليس إلى الطائفة.

كنت دائماً متحمسة لموضوع إنشاء المدارس ونظام تربوي واحد. واليوم عندما أفكر بذلك المؤتمر وتلك الجلسة التي شاركت فيها يتأكد لدي بأن الهدف الذي حاولت مع زميلات لي، وحتى زملاء في مؤسسات المجتمع المدني، الوصول إليه لم يتغير، وعلينا رغم كل المعوقات التي تعترضه متابعة المسيرة النضالية لتحقيق الدولة المدنية ومؤسساتها كافة.

طلبت الكلام برفع اليد دون أن أفكر أن الاقتراح الذي قررت تأييده كان صعب المنال خصوصاً في دول العالم الثالث. قلت وبحماس إني أؤيد الدكتور الذي اقترح توحيد المدارس وأن تكون مدنية. شكرني صاحب الاقتراح. وإذ بيد ارتفعت وطلب صاحبها الكلام فأثنى على الاقتراح وأضاف: إن هذا الاقتراح على أهميته أرى أنه سابق لأوانه. علينا أولاً أن نطالب بتعميم المدارس وإلزامية التعليم لأن من واجبنا أولاً القضاء على الأمية. وأضاف: إن هذا المؤتمر عالمي وليس أوروبياً ومهمته تسليط الضوء على أوضاع التربية والتعليم في الدول التي لاتزال تفتقر لوجود المدرسة، واقترح أن تصدر توصية في هذا الشأن.

عندما استمعت إلى هذا الحديث خجلت من نفسي لأني أمثل لبنان ولم أفكر لحظة أن المدارس في بدايات الخمسينيات لم تكن متوافرة لكل المناطق وأن الأمية كانت صاعقة خصوصاً بين النساء.

منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا أتذكر دائماً هذا الموقف وأحاول ألا أتسرع بطرح أي رأي قبل أن أفكر وقبل أن أستمع إلى رأي الحضور.

***

أثناء كتابة هذه الصفحات عدت أستعرض المراحل الأولى من حياتي والتي لاتزال حتى هذا التاريخ تذكرني بأحداث لا مجال لتسجيلها في هذه الصفحات. أحداث في قسم منها يخصني وحدي، لكن القسم الأكبر كان معمماً على السواد الأعظم من الذين عرفتهم. صورها تتراقص أمام عيني: الطفولة، الدراسة، العمل، الحب، الزواج، الأمومة، الدين، الطائفية، العلمانية، الحرب، السلام. مفردات لم أستطع لوحدي إيجاد تفسير لها. هذه المفردات التي تبدو منفصلة واحدة عن الأخرى هي رزمة من واقع الحياة تتأثر ببعضها وتؤثر على مصيرنا.

الصفحات