أنت هنا

قراءة كتاب تقلبات رجل موسمي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقلبات رجل موسمي

تقلبات رجل موسمي

رواية "تقلبات رجل موسمي"، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

[1]

ما إنْ شعر بنذير تحوّل اللهو إلى الجدّ حتى عمد فوراً إلى اختلاق قصص مقيتة عن نفسه، فتلبّس فجأة بهيئة شخص غريب الأطوار، قد يتحوّل في أي لحظة إلى من لا يؤتمن لتقلبات مزاجه الصادم؛ وذلك كي يدفعها إلى الهربِ من غير أن تلتفت وراءها، ومن دون أنْ يساورها شك في خيارها السديد، كما لو أنها استدركت خطأً، قبل أنْ تتورّط معه أكثر فأكثر. وإذا لم يوفّق في صدّ تعلّقها به، كان لديه من الدواهي ما يكفي لينتشل واحدة من خباياه الشريرة، لدفعها إلى أنْ تسأل هي نفسها، ما الذي يجمعني بهذا الرجل؟ كأن يجعلها تشكّ في صدق إجابتها عن تأخّرها خمس دقائق فقط. وإن لم ينل مراده، أمعن في شدّ الخناق أكثر، عبر النيل الصريح من صدقها بما يجعل أية امرأة لا تسامح نفسها، إنْ بقيت دقيقة إضافية معه، حتى يفوز في النهاية بخلوة مع نفسه الهائمة من دون أن يعرف مطلقاً سرّ تعلّقه بهذه اللعبة المؤذية لها وله، لأنّه هو أيضاً كان يعاني صقيع وحدته عقب انعتاق كل فتاة، فرّت من جحيم غرابته.ـ
في المرّة الأخيرة، قفل سالم عائداً إلى بيته، بعدما نجح في أنْ يخيّب أملها، وفي أنْ ينغص عليها فرحة انتظار قدومه، بعد أن انهمكت في صباح يوم ماطر كالذي يستشعر المرء في برده رغبة جامحة في دس جسده تحت أغطية سريره، حيث شرعت في إعداد نفسها لملاقاته عبر ترتيب الفوضى الناجمة عن أرقٍ أصابها في الليلة الفائتة، لعلّة تجهلها. وبعدما رمت بالمنفضة الممتلئة بأعقاب السجائر، أخذت تلملم زغب الصوف المتطاير على السجادة. حتى إذا ما وقع نظرها على أثر البقعة الدامغة من كوب الشاي الذي سقط من يديها قبل عشرة أيام، أعادت فركها بقوّة أنستها ما لليد أن تتحمله، قبل أنْ يوقظها ألم معصمها.ـ
وقفت... ثم تراجعت ثلاث خطوات ليتاح لها إمعان النظر في ما يمكن أنْ يراه هو إنْ جلس على هذا الكرسي أو ذاك، ومن ثم شرّعت النوافذ لتطرد من الغرف رائحة مقرفة اختلط فيها زفيرها في الليل بدخان سجائرها ليتولد الشيء الذي يبعث على التقيؤ.ـ
كان همها منصباً على توضيب الأشياء على النحو الذي ظنّت بأنه يؤنسه، لم تشكُ تعب الساعات الأربع التي انكبت فيها على التنظيف والترتيب، ولم تتذمّر من الرضوض والكدمات التي أصابت وركها بعد أنْ جثت وحشرت جسدها الغضّ تحت الأريكة، لتمسح غباراً منسياً، لم يكن ليديها القصيرتين أنْ تصلا إليه من قعر زوايا غرفة ضاقت بأغراض كانت قد ابتاعتها لشقّة أوسع، قبل أنْ يرغمها شحّ المال على استئجار بيت صغير دافئ على شاكلة ما لاطف به سالم حسن استضافتها له في زيارته الأولى.ـ
وقبل أنْ يصل، كان لا يزال لديها وقت كاف لشطف جسدها بالماء الفاتر، فتزيل عنها رائحة جهد بذلته كي تبدو بحلّة نظيفة، «وست بيت». فالرجل على ما سمعته من أمّها لديه نوع من حساسية الشمّ عند كلب تنشد غريزته إلى الرائحة المنبعثة من الكلبة في فترة الخصب. بعدئذ لبست جورباً أسود شفافاً، حرصت على شرائه مباشرة، بعد أنْ أحسّت بأنّه أثار لديه شبقاً ذكورياً، لدى مرور امرأة حلوة بالقرب منهما. فلم يستطع أنْ يمنع نفسه عن استراق نظرة فاضحة إلى قدميها. فكان أن زلّ نظره، بعد أن استلبت عقله أنثى مغرورة وواثقة بقدرتها على شدّ رجال الرصيف وشبان الحارات المحيطة كلها، بطرف تنورتها. لم يكن لغنجها أن يستفزه، ولا لردفيها المكتنزين شهوة، ولا حتى لعينيها الطافحتين بفرح الحياة، أن تستثير فيه رغبة حارقة، لو لم تكن لامرأة مثلها ليس لجوربها ولا لهندامها أو زيّها من إغواء ما لم يقترن بالثقة والغرور إياهما اللذين جعلاها من فرط إيمانها بنفسها، تخرج من بيتها وهي متيقّنة، بأنها ستصيب الرجال كلّهم بالخبل الذي أصاب سالم، حتى لو كانوا في أحضان عشيقاتهم. ولعلّ هذا النوع من النساء الجميلات مُصاب بخطب سيكولوجي. فمن فرط ثقتهن بجمالهن أضحين لا يستمتعن باجتذاب الرجال، إنّما بالانتصار على مثيلاتهن من النساء.ـ
ما إنْ ضغط زر الجرس حتّى فُتح الباب بسرعة هائلة أفسد عليه جهوزية لقائها بالمظهر الذي يظنّه المرء محبباً لها، كأن يأخذ نَفَساً عميقاً، ويملّس شعره بيده ويبتسم قبل أنْ يطرق الباب. ألقى عليها التحية راسماً على وجهه ابتهاجاً لم يتلاءم وتقبيلها بفتور أصاب حماسته، بعد أن اشتمّ من تبرّجها تكلّفاً، كان يبغضه بسبب اقتناع أعرج لا يفهمه الرجال ولا حتّى النساء، فالرجل ينشد إلى غواية المرأة التي لا تأبه لغير نفسها، وما إنْ تنتبه إليه وتهتمّ بشكلها من أجله حتّى يستشعر لديها ضعفاً، يسعى وراءه ولا يريده. إنها المفارقة نفسها التي ما برحت تتكرّر لدى الجنسين. لعلّ سالم نفسه يحتاج إلى فتاة لا يجعلها حبّها له تذوب فيه وتلغي نفسها، يريدها أنْ تتمسك باختلافها، وأن تحافظ على حيّز من استقلاليتها، ولا بأس في أنْ يستشعر لديها قدرة على تركه في أيّة لحظة، بسبب دواعٍ ذكورية تعبّر عمّا يرتديه الرجال من أقنعة واهية، تُخفي حاجتهم إلى امرأة قوية يُتكل عليها عند الشدائد. فتساعدهم على التعويض عن ضعفهم المضمر خلف صورة الشوارب المفتولة عند كل الرجال.ـ
جلس على الأريكة، فأحس بالجو وقد تلبّد بأحاسيس خانقة. جهد في أنْ يتلبّس بهيئة مسرور بقدومه إليها. ولأنّ النسوة كلهن يستشعرن الرجال بحدس فائق الغرابة، اكتنهت جوانيته فانقلب مزاجها على النحو الذي يتبدّل فيه جلد الحرباء. هكذا ظهرت على محياها علامات استياء شديد مما أصابه من خفوت جواني، نَالَ في الصميم من انهمامها طوال يومين بانتظار لحظة، ما إنْ حانت حتى تبخّرت الآمال التي كانت قد علقتها عليها.ـ
لعلّها كانت قد وعدت نفسها بأقل مما يمكن أنْ يقدمه رجل عابر لامرأة عابرة في عيد العشاق، فمن لحظة دخوله عليها لم تستطع أنْ تخفي خيبتها لخلو يديه من باقة الورود. فانطفأت حماستها، بعد أن تقوّض سعيها للاستحواذ عليه عريساً. فالمرأة الشرقية تراهن على تبدلات مزاج الرجل على نحو ما يتبدّل في مزاجها هي، فتتسلّح بالصبر لتقبض على مكامن ضعفه، فتستعين بألف حيلة وحيلة، لكي تفوز به زوجاً لها.

الصفحات