يحاول حسن خليل تقديم نفسه ماركسياً في مواجهة المفاهيم المتغيرة، لذا نراه يسعى إلى إعادة تحديد هذه المفاهيم، وتوصيف معاييرها الابستمية ضمن حراك الواقع السياسي - الاقتصادي عالمياً وفي العالم العربي، ولبنان، معيداً "للبراكسيس" لمعانه كأساس في الفكر الماركسي...
قراءة كتاب ديمقراطية - عولمة وحروب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لكن من الضروري والملحّ جداً عند تناول أزمة اليسار من زاوية ما أفرزته التطورات السياسية والفكرية التي طرأت على الخطاب السياسي الحالي بعد المتغيرات الكبرى التي عصفت بالعالم، والتي أتينا على ذكر بعضها فيما سبق، أن نذهب مباشرة إلى مقاربة بعض المفاهيم التي لا بد من توضيح ماهيتها ومدى تأثيرها على إعادة فهم القضايا المكوِّنة للفكر اليساري بشكل عام.
إننا نعيش اليوم في ظل "مفاهيم متغيرة لعالم متغير" والتي لم ترسُ بعد على وجه نهائي وثابت، وهذا بحد ذاته يمكن أن يشكل موضوعاً اشكالياً ليس طلباً لثباته وإنما لمواجهته. فهذا المتحرك دائماً يحمل في طياته أسباب اشكاليته، بمقاربة أكثر: هذا المتحرك ناتج عن دينامية في ذاته، وهذا أكيد، ولكن ما تنتجه هذه الدينامية المتسارعة في آلياتها يمكن أن تكسبه بعداً آخر بعيداً عن طبيعته الأصلية والتي أساسها حركة رأس المال المعروف سببها وهو السيطرة. إنَّ فقدان آلية السيطرة الضرورية في الواقع الموضوعي لتأبيد سيطرة رأس المال هي ما سيؤدي به إلى فقدانها، وهنا الإشكالية التي ستنتج عن ذلك، وهي عدم تمكن القوة المهيمنة على رأس المال وعلى آليات العولمة من ضمان تلك السيطرة بشكل ثابت ونهائي، وهذا سيؤدي حتماً إلى تسارع وتيرة هذه الحركة، ولو باشكال ظاهرها أكثر توحشاً ورجعية؛ وإذا ما أضفنا إليها حالة الانكماش الاقتصادي والمشاكل البيئية المهددة للعالم، وحالات بروز الانتماء العرقي والمذهبي وانتشاره كبديل للانتماء الوطني والانساني وتنامي ظاهرة التفرقة الاقتصادية الحادة ومعدلات النمو وضمور القيم والمفاهيم الإنسانية الكبرى التي قام على أساسها العالم في القرن الماضي، كل هذه الاشياء تجعل هذا الواقع مأزوماً بطبيعته وآلياته، وبالتأكيد بقواه المهيمنة.
هنا السؤال الأهم: أين اليسار من هذه الأزمة وتلك المفاهيم؟
يمكن القول، وبكل صراحة، أن هذا المسمى "يساراً" هو سبب من أسباب هذه الأزمة وهو في قلبها، ليس لمسؤولية مباشرة وإنما لعدم تمكنه من أن يكون في موقع المسؤولية. والمسؤولية هنا لا نريد أن نردّها إلى ما يتحدث فيه الكثيرون من منظّري الفكر الماركسي حول الانهيارات والجمود وليس لاعفائها، وإنما لمقاربة لب القضية وأساسها. أليس ملفتاً أو مستغرباً، إذا ما اتبعنا ما قلناه سابقاً عن مسؤولية النظام العالمي المعولم-الجديد عن سبب الأزمة الراهنة ومسؤوليته عن تفاقمها وعن هذا التناقض القائم، ألم نسمِّ هذا أزمة في أساس النظام، أي في بنيته الأساسية؟ كيف أننا نسمع اليسار وعلى امتداد العالم يناقش أزمته؟ لقد تحّول هذا النقاش بحد ذاته إلى أزمة ذات قيمة مضافة، لأنها زيادةٌ لأزمةٍ فوق الأزمة. ألن يُحدث هذا بما نسميه في أدبياتنا الماركسية تراكمًا؟، وهذه المرة سيكون مزدوجًا، أي كمياً وكيفياً بتأثيراتٍ تطال بنية هذا اليسار، وتحوّله عن مهامه وتحدث تغييرًا جوهرياً في طبيعته وآلياته... فإذا افترضنا أن الأزمة عامة، فلماذا إذن الانفراد بسبيل التفتيش عن أسباب هذه الأزمة؟ وأين يتم؟ أليس في قسمٍ أو جزءٍ من هذه الأزمة؟ إذن لماذا لا يتحمل الأزمة مسببها، أي بنية النظام العالمي المُسبب لها؟، سؤال تكمن إجابته في قدرة المسبب-وهنا نقصد النظام العالمي الجديد-المعولم- عن تحييد نفسه عن مسببات وتأثيرات هذه الأزمة من جهة، ولوجود من تبرع بأخذ المهمة عنه من خلال إلصاق نفسه وغوصه في نقاش أزمته، حتى ليكاد يكون هو الوحيد المأزوم، ونعني به اليسار. هنا برأينا تكمن المشكلة، وهنا واجب البحث فيها للوصول إلى مقاربة لحلّها، إن لم نقل أقله محاولة تحديدها. إنَّ الأزمة العامة المرتبطة في أزمة النظام العام، ترتب على قوى اليسار إعادة التموضع الفكري والسياسي بانحيازٍ تام، ودون لبسٍ إلى جانب صاحبي المصلحة وهم منهم، وإلى جانب المتضررين من النظام العام الحاكم اليوم لكي يكونوا جزءًا مكونًا من أساس المواجهة، باعتبارهم قوى محركة ومنحازة دائمًا إلى من هم في موقع الدفاع عن مصالحهم بغض النظر من هم، ولكن طالما هم في موقع الدفاع عن النفس، فهذا يعني أنه الانحياز الطبيعي إلى فئات مهمشة مستقلة في كيانها ووجودها وكينونتها، وهذه، في الأغلب، حال كل من تضرر اليوم من مفاعيل السياسة النيوليبرالية والحروب، وهي ديمقراطيات السوق الرائجة في هذه الأوقات تحت مسميات مختلفة، والتي انبهر بها بعض قادة اليسار، وحتى أنّهم غطّوا بعضها. لكننا سنكون من ذوي النيات الحسنة وسنقول إن بعضها قام بذلك عن عدم فهم أو قصور وبعضها الآخر عن عدم معرفة وجهل، ونخشى أن نقول بعضها عن قصد (5).
إذن من الضروري عودة اليسار إلى الحاضنة الاجتماعية له لتشكل هويته الفكرية ولتكسبه شرعيته ومشروعية التمثيل والدفاع عن مصالحها. كذلك يجب عدم الاكتفاء فقط بتحديد الهوية الاجتماعية وإنما يجب التفتيش عن الوظيفة، لأن تحديد الوظيفة التي وجب على اليسار امتهانها، تشكل الرافعة الثانية لإعادة الاعتبار لإحياء دور تلك الفئة الممثلة للواقع المأزوم-المهزوم في هذه الأيام. من هنا ضرورة التحديد في شكل العلاقة الواجب اتخاذها وواقع المكان والوضعية المطلوب الاضطلاع فيها. فلا يمكن أن يعاد تشكّل القوى الاجتماعية فقط من واقع الهيمنة للفئة الداعية، على اعتبار أن تحديد تلك الفئة خاضع دائماً لاعتبارات تكون بعيدة كل البعد عن الوظيفة الأساسية. لذلك ومن منطق إعادة إطلاق دينامية التشكيل وفق الحاجة والهوية والوظيفة يُفترض، وبالضرورة، حسن اختيار البرنامج والممارسة، وهذا يفرض، وبالتأكيد، تحديد ساحة المعركة وميدانها وموضوعها لكي لا يستدرج هذا اليسار، كما اليوم، إلى خوض معركة خارج الزمان والمكان الطبيعيين لها.
إنَّ إعادة دراسة ما استجد من تطوراتٍ في المجتمع، سواء من خلال إعادة فهم تلك المتغيرات، لا بد وأن يطرح مجموعة أسئلة واستفهامات تحدد من خلال أجوبتها جوهر ما نريد ان نُحدثه من تغيير. فهل مسألة الديمقراطية هي مسألة جوهرية وحتمية في الصراع؟ هل العولمة هي جزء من المشكلة أو من الحل؟ هل النظام العالمي الجديد هو مناقض للتطور التاريخي الطبيعي؟ أسئلة عديدة، ولكن في جوهر إجاباتها يمكن تحديد الخلل وموقع الحل، وهنا فإنَّ محاولة الإجابة عنها يمكن أن تحمل بطبيعتها حقيقة تشكل أو تبلور الواقع المأزوم حالياً بشقيّه-السلطوي الحاكم -المتحكم بالسيرورة والدينامية، والمحكوم بحكم سيطرة رأس المال والاستغلال على اعتباره حالةً مادية تنتقل ملكيتها من فريق إلى آخر أو من نظامٍ إلى غيره.
سنحاول إذن مناقشة تلك المسائل من خلال تحديد آلياتها ونظم ممارسة تلك الآليات سواء في مجال السيطرة أو تحمّل نتائج هذه السيطرة، في مجال الفعل أو في مجال من يقع عليه هذا الفعل. إننا نطمح في نهايته أن نطرح محاولة إحياء رؤيةٍ جديدة أو أقله مقاربات يمكنها إعادة النقاش إلى المربع الأول، أي إلى المكان الذي يحاول الجميع التمسك به من حيث التعبير عن نهاية التاريخ والصراع الإيديولوجي أو قيمة انتصار منطق التطور التاريخي؛ نطمح إذن للبدء، على الأقل، بتلمّس هذه الأشياء، والتأكد من أنها لا تزال تملك القدرة لإحداث نقلةٍ تفضي بالمأزق اليساري إلى شاطئ الأمان لتحديد انطلاقته ولإحداث الوظيفة المطلوبة منه.