يحاول حسن خليل تقديم نفسه ماركسياً في مواجهة المفاهيم المتغيرة، لذا نراه يسعى إلى إعادة تحديد هذه المفاهيم، وتوصيف معاييرها الابستمية ضمن حراك الواقع السياسي - الاقتصادي عالمياً وفي العالم العربي، ولبنان، معيداً "للبراكسيس" لمعانه كأساس في الفكر الماركسي...
قراءة كتاب ديمقراطية - عولمة وحروب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثانياً: في أزمة الفكر الرأسمالي
إنَّ ما نريد طرحه هنا ليس تكراراً أو سرداً لواقع بات معروفاً، وإنما لمناقشة الواقع الموجود والسائد بطريقة نستطيع معها ادراك الخلل وكذلك البديل في الوقت نفسه. من هنا فإنَّ ما سنتناوله هو اتجاهات فكرية ومفاهيم وقيم نعود اليها لاحقاً بالتفصيل.
لقد بات معروفاً ومعاشاً خصوصاً في العقدين السابقين أننا نعيش تحت سلطة اعتقدت نفسها منتصرة أبدياً، سلطة حاولت إدارة العالم بصورة مختلفة وبنظام وفكر جديدين. إنَّ ابرز تجليات هذا الجديد هو اللجوء إلى آليات محددة يستطيع من خلالها، حسب اعتقاده، حكم العالم. فمن السوق العالمي الذي أرادوا فرضه إلى الترابط الإنتاجي بين المؤسسات والدول والقارات وصولاً إلى التحكم والسيطرة، نهج أدّى إلى بروز نظام عالمي ومنطق جديد وبناء آخر للسلطة. ببساطة، هو شكل مُحدث للسيادة أو فهم آخر لها، وللديمقراطية وللدولة وغيرها من القضايا والأمور التي تدخل في تكوين آليات المجتمعات الإنسانية وطريقة ادارتها. إنها العولمة التي برزت كشكل آخر وبديل لما كان سائداً، إنها المعطى السياسي والاقتصادي الذي حاول تنظيم عملية التبادل والعلاقات الدولية ومستلزماتها، إنها السلطة "السيدة" والسائدة التي تحكم بالعالم وتتحكم به، إنها الشاهد والمسبب لعجز الدولة-الأمة (6) عن السيطرة على مكوناتها وحل المشاكل المترتبة عليها، هي المسببة لتدهور وإفلاس القيم أمام منطق التكيّف مع متطلبات السوق والواقع العالمي الجديد. هذا بعض من واقع استجد بفعل المتغيرات، واقع فرض نمطية حركته على جميع المستويات وفي جميع الظروف، واقع أراد له أصحابه أبدية دائمة. بالمقابل يجب أن لا نأخذ هذا الواقع كواقع ثابت غير قابل للنقاش الذي يؤدي إلى نتائج ثابتة ونهائية، بل يجب أخذه كواقع متحرك لمنظومة أفكار وقيم وحتى مفاهيم تتعدد بتعدد مصادرها وتختلف باختلاف وجهة استعمالها وكيفية استخدامها؛ واقع أثبت عجزاً كبيراً في الكثير من الأمور، وأثبت أيضاً أنه واقع مأزوم. من هذا المنطلق سنحاول عرض أبرز مظاهر تجليات ازمته الراهنة في قضايا منها ما كان جوهرياً في خطابه السياسي ومنها ما هو على نقيض مما كان يُطرح. قضايا اعتقدها أنها تابعة له أو أنَّ له حصرية الدفاع عنها أو تبنيها.
أزمة القيم والمفاهيم
لقد مرت الرأسمالية خلال تاريخها المعاصر بعدة مراحل وتحولات، ولكل مرحلة وضعيتها وأساليبها وشعاراتها، المشترك فيها هو العداء المستحكم للتغيير وللطبقات الفقيرة. لقد تميزت مراحل الرأسمالية بحدة الصراع العالمي وتوسعه ليشمل أماكن ومناطق واسعة ويستخدم أساليب مختلفة في الشكل والمضمون. فإذا أخذنا مثلاً مرحلة القرن العشرين لوجدنا أنَّ للرأسمالية ثلاث مراحل تميزت فيها مع اختلاف في الظروف وطبيعة الصراع:
- المرحلة الأولى: هي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وتميزت بالصراعات الكبرى في الطبيعة والقوى، ما بين امبراطوريات استعمارية آفلة وأخرى مستجدة، صراع على النفوذ والسيطرة أو لنقل، عند بعضهم من أجل البقاء. شعارات تلك المرحلة انتقلت من الحرية إلى التحديث، فالمدنية، فالحضارية. إنها مرحلة صعود الاستعمار الجديد بصيغتة المُعدلة أي تحت حجة تطوير الشعوب وتحديثها. جوهر هذه القضية لم يكن كذلك، وإنما كان بكل بساطة وضع اليد وتقاسم النفوذ. تميزت أيضاً بصعود اليمين الفاشي والنازي وسيطرة النزعة القومية، وأيضاً بالأزمة الاقتصادية العالمية (7). هذا الواقع أسس للحرب العالمية الثانية. إنَّ ما يميز تلك المرحلة هو الخطاب السياسي المرافق من حيث الشكل والمضمون والنتائج: فخطاب الحداثة تحول إلى استعمار، والسلام إلى إعادة انتاج حرب أكثر شراسة، والرخاء ومحاربة الفقر إلى أزمة اقتصادية قضت على أي أمل في انتاج نظام اقتصادي عادل وقوي. إنها بكل بساطة لعبة الشعارات الكبرى والقيم في خدمة المصالح.
- المرحلة الثانية: هي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتميزت بالانقسام الدولي حول معسكرين: الاشتراكي من جهة والرأسمالي من جهة أخرى، وبإنشاء المنظمات الدولية من أمم متحدة إلى مجلس الأمن. شعارات تلك المرحلة انتقلت إلى موقع متقدم ومختلف، فأصبح شعار التحرر الوطني ملازماً للمعسكر الاشتراكي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مرادفاً للآخر. وقع العالم مجدداً في فخ اللعبة الكبرى الناتجة عن صراع الكبار وصراع النفوذ. فليست كل معارك التحرير الوطني كانت كذلك كما أنَّ شعارات العالم الحر التي أطلقتها الامبريالية الغربية لم تكن هي الهدف المنشود، بحيث أنَّ سلوك من تلطّى خلف هذه الشعارات خلال تلك المرحلة يشهد على ذلك. لقد جرى، وبصورة أكثر وضوحاً، استخدام تلك القيم مجدداً في لعبة المصالح ولخدمة أصحابها. إنَّ الخطاب السياسي الذي خرجت به تلك الفترة كان أكثر راديكالية في مقاربته للأمور. لقد افصح عن نيّاته بكل وضوح ومن دون مواربة. لقد أنهى عهد الصراعات والمصالح المتعددة وأرسى عهد الانقسام السياسي الثنائي، وجعل كل متطلبات الحياة العامة تخضع لمفاعيل هذا الانقسام. ولقد اتسمت تلك الفترة بصفتي التوازن والتعطيل.
- المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ما بعد الانهيارات، مرحلة أسست لعالم أحادي القطب والشعارات حيث عادت شعارات الحداثة إلى الواجهة مع نسخة أكثر تطوراً. إنها مرحلة المشاريع الكبرى المجسدة في منطق العالم المعولم والقرية الكونية. إنها عولمة السياسة والاقتصاد والإعلام والأسواق والقيم والقانون، إنها صراع الحضارات... إنها عولمة كل شيء. واقع أفرز بطبيعته لاعبين جدداً وأساليب جديدة وقضايا أيضاً جديدة، ولكن بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. إنَّ الخطاب السياسي المرافق لهذه المرحلة اتسم بالكثير من العنف والضراوة نظراً لحجم الأحداث التي وقعت، وكثرة الحروب التي اندلعت. لقد أنهى عهد الانقسام الثنائي ولكن أيضاً عهد التوازن الذي ضبط طبيعة وكمية الصراعات والحروب وحجمها. هذا الواقع الذي انتقلت إليه الرأسمالية بعد سيطرتها وسيادتها على العالم، أنتج خطاباً سياسياً يعتمد على الخطاب السابق نفسه ولكن مع بعض التعديلات التي طالت شكله وتسمياته. لقد انتقلنا من عهد المعسكرين وجدار برلين إلى عهد العالم المفتوح فقط أمام رأس المال والجيوش، من عهد الصراعات السياسية إلى عهد الصراعات الدينية والاثنية ومن عهد حروب التحرر الوطني إلى محاربة الإرهاب المُعدّ والمُصنّع بتوجيهات من يدّعون ويدعون إلى محاربته.