كتاب " البلاغة وتحليل الخطاب "، يتمحور موضوع الكتاب حول إشكالية النسق السيميائي للخطاب الاستعاري، وهو خطاب يفترض فيه أنه منفتح على القراءة والتأويل، لأنه يمثّل خاصية أساسية في اللغة الطبيعية في جوانبها: التمثيلي، الدلالي، والتداولي.
أنت هنا
قراءة كتاب البلاغة وتحليل الخطاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البلاغة وتحليل الخطاب
لكن بالموازاة مع هذا، قد لا نجد هذه النظرةَ إلى الاستعارة نفسها في البلاغة العربية، رغم استفادتها من البلاغة الأرسطية، واغترافها منها، وخصوصاً ما وجدناه عند الفلاسفة العرب من شروح للنظرية الأرسطية، فقد بقيت الاستعارة ملحقة بالمجاز أو بالخطاب المجازي وجزءاً منه، وهذا راجع ربما إلى تأخر ظهور مصطلح الاستعارة في البلاغة العربية، ما أدى إلى جعلها جزءاً من المجاز اللغوي، الذي بقيت النظرة إليه مرتابة، نظراً لأنه يفتح باب التأويل في قراءة النصوص على مصراعيه، إلى جانب إدخاله باب اللغة التخييلية التي تبدو متعارضة مع الحقيقة، ما أدى إلى رفضه من قِبل دعاة الدلالة الحقيقية للنصوص، خصوصاً النص القرآني تنزيهاً لله جلّ جلاله من الخيال والكذب.
والحقيقة أن الخيال لا يتعارض في أي وجه من الوجوه مع الحقيقة، بل هو في الغالب يروم حقيقة ما، لها وجود في الواقع يطابقها. انطلاقاً من هذا ارتأينا استبدال مصطلع «الخطاب المجازي» بمصطلح «الخطاب الاستعاري» الذي يبدو مؤسساً، لأن آلياته تبدو موجودة في صور بلاغية كثيرة، ما يرشحها لأن تتبوأ رأس الصور أو «الاستعارات» الأخرى.
تسمح لنا هذه الفكرة بالنظر إلى الخطاب كله، كوحدة متراصة الأجزاء، على أساس أنه استعارة كبرى، تتكون من مجموعة استعارات جزئية متعالقة فيما بينها داخل النظم، مستمدين آلياتنا التحليلية من مناهج تحليل الخطاب، ومن السيميائيات الحديثة، سواء تلك المتعلقة بالسيميائيات اللسانية ، ذات الأصول «السوسيرية» ـ التي كانت محل نقد ومنطلقاً لنا في الآن نفسه ـ أو السيميائيات التداولية «البورسية» نسبة إلى بورس (C.S.Peirce) وبعض من امتداداتها.
إن إشكالية الاستعارة، رغم أنها إشكالية متناولة منذ فترة طويلة من الزمن، إلا أنها تبقى إشكالية قائمة تحتاج إلى نظر، خصوصاً في الدراسات البلاغية العربية، وقد لمسنا هذا في آخر الإصدارات المتناولة للمسألة، مثال هذا ما لمسناه في كتاب «عنف اللغة» لجان جاك لوسركل، الذي ترجمه محمد بدوي سنة 2005. فالكتاب على حداثته، يتناول إشكالية الاستعارة في حديثه عن نظرية المتبقي، والمقصود بمفهوم المتبقي هو تلك الجوانب التي عجزت عنها النظريات الألسنية ونظريات تحليل الخطاب، فعدت هذه الجوانب ضمن ما أسماه لوسركل بالمتبقي، وقد عدّ الاستعارة هي نفسها ذلك المتبقي، الذي ينتظر الكشف عن أسراره وخباياه، التي هي في الأصل خبايا وأسرار اللغة والخطاب، وهذا ما قد يمنح إشكاليتنا ومجموع افتراضاتنا المتعلقة بالموضوع سنداً قوياً.
وفيما يأتي عرض لأهم محاور بحثنا الموسوم بـ «النسق السيميائي للخطاب الاستعاري» المتناول في ثلاثة فصول، اعتمدنا فيه العرض النظري التحليلي في الفصلين الأول والثاني، يليهما فصل تطبيقي، فيه تظهير (تطبيق) للمسائل النظرية التي تناولتها في بداية البحث.
يتناول الفصل الأول الموسوم بـ «الخطاب الاستعاري بين البلاغة والسيمياء» قضية الاستعارة كمبحث بلاغي، متعلق باللغة كنظام سيميائي، حيث الاستعارة محور دراسة وتماس للسيميائيات ومناهج تحليل الخطاب على اختلافها.
ويتوزع الفصل على مباحث، يتناول المبحث الأول قضية الاستعارة في البلاغة الغربية والعربية على السواء، قديماً وحديثاً، وتجدر الإشارة هنا إلى أننا لم نقتف تطور الاستعارة من جانب تاريخي، وإنما قصدنا تناول بعض المسائل التي تصب في إثبات افتراضنا الأساسي ومجموع الافتراضات المرتبطة به، ومن بين أهم هذه الافتراضات تأكيد ارتباط الاستعارة بالكتابة وبالنص، انطلاقاً من بعض الإشارات إلى المسألة في البلاغة الغربية، سواء التقليدية أو الحديثة، وقد يبدو الافتراض مبالغاً فيه، لأنه يعمم الاستعارة على النصوص الأدبية، ومع أننا قد نجد نصوصاً لا تقوم على الاستعارة أو على أي من الصور البيانية، ومع هذا فإنها تبقى نصوصاً أدبية، مما يجعل افتراض تعميم الاستعارة على الكلام بصفة عامة، تعميماً مخلاً غير مؤسس على قواعد صلبة، وتفادياً لهذه انتقلنا إلى البحث في السيميائيات وتحديداً في السيميائيات التأويلية التي أصّل لها ش.س.بورس (C.S.Peirce) في أبحاثه حول العلامة، ولمسناها في سيميائيات الدلالة عند أ. إيكو (Umberto Eco) ، ور. بارث (R. Barth) ، ولما كان همنا من وراء مبحث الاستعارة هو النص الأدبي وليس اللفظ الاستعاري، فقد تطرقنا إلى الحديث عن السيميائيات السردية عند ا.ج. غريماس (A.J. Greimas) خصوصاً دراسته التطبيقية حول قصة «الصديقان» لموباسان.
كما تطرقنا كذلك إلى منهج كريستيفا (J. Kristiva) في السيميائيات التحليلية ومحاولاتها التقعيدية في علم النص.
وهي كلها مناهج ممتدة من المنهج البنيوي السوسيري ، لذلك فهي تعتمد التحليل المحايِث للبنية النصية، وتفضي إلى قراءات نسقية محايثة، مبنية على برمجة أولية للنصوص، وإن كان الاختلاف بيِّناً في مقاربتَي ا.ج. غريماس الذي يبدو أكثر تمسكاً بالتحليل المحايث، فإن منهج كريستيفا يبدو أكثر شمولاً واتساعاً وملامسة للمناهج التقليدية في تحليل الخطاب، وقد استفدنا كثيراً من مفهومها للتناص الذي يعد امتداداً لمفهوم الحوارية عند باختين (Bakhtine) ، وإن كنا قد وظّفناهُ بطريقة مغايرة. وإلى جانب هذه المباحث النظرية التقعيدية، تناولنا في هذا الفصل عدة مباحث تتعلق أساساً بمفهوم النسق، والقراءة النسقية وعلاقتها بالتناول المحايث، والتأويل الذي يفرضه التناول الاستعاري، المتجاوز للمحايثة إلى التأويل، باعتباره يتجاوز المعنى إلى الدلالة، بيد أننا لن نستغني ـ في أي حال من الأحوال ـ عن التحليل النسقي المحايث، الذي قد يحدّ من انفلات المعاني والدلالات، ويضع حدوداً للقراءات التأويلية.