أنت هنا

قراءة كتاب مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

يأتي هذا الكتاب (مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين) الذي أعده وحرره الكاتب والباحث د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 6

هكذا تمّ مَرْكَزَة المسألة السياسية لدى الحركة الإسلامية "الأم"، مما أدى إلى بروز نزعة التسييس، وإعلاء الشأن السياسي العملي في عموم الفكر الإسلامي وتياراته وحركاته، حتى إن الفكر الإسلامي الحديث ربط قوام "الأمة" وتحقُّق وجودها التام بالدولة، ونقل المرجعية من الأمة إلى الدولة التي تطبق الشريعة، وهذه إحدى مشكلاته الكبرى بحسب الكثيرين.

لم يغادر البنا تصور الخلافة كليةً، فهو قد جعل من «فكرة الخلافة والعمل لإعادتها»، على رأس أولويات الإخوان المسلمين، ولكنـه يعتقد أن الأمر يحتاج إلى «كثير من التمهيدات التي لا بـد منهـا، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد لها أن تسبقها خطوات».

إنه بالرغم من كثرة الحديث عن نظام إسلامي، ودولة إسلامية، نجد إقرارًا مستمرًّا بأن الكلام يتعلق بالمضمون والمرجعية لا بالشكل أو المسمّيات؛ لأن الإسلام – حسب البنا وغيره - لا يتدخل في تفاصيل وجزئيات الحياة الدنيوية البحتة، وإنما في المسألة السياسية بما هي اشتغال في القيام على الدنيا بما يصلحها، لكنهم مع ذلك حين يرسمون وظيفة الدولة أو مهماتها نجدهم يتحدثون عن "وظيفة عقدية للدولة الإسلامية" كما هو عنوان كتاب لحامد عبد الماجد، بل إن البنا والغنوشي يتحدثان عن وظيفة الدولة في نشر الإسلام وتبليغ دعوته الحكيمة للناس، وهداية الناس جميعاً، وهذا يتجاوز مسألة وجود الدولة لضرورات اجتماعية لتحقيق النظام وتسيير المعاش وتحقيق إجماع الحد الأدنى في الجماعة السياسية وغير ذلك.

وفي الواقع ثمة شبه اتفاق بين العديد من مقالات هذا الكتاب على أن مفهوم الدولة الإسلامية يلفّه غموض شديد، والتباس بمفاهيم الدولة الحديثة، والخلافة، وقد سبق لنزيه نصيف الأيوبي أن أكد في كتابه "العرب ومشكلة الدولة" (ط1، 1992م) أنه ليس في الفكر السياسي الإسلامي مفهوم محدد للدولة، وأن عشرات الكتب التي تتحدث عن مفهوم "الدولة في الإسلام" وتستمد مادتها من الأدبيات الإسلامية التقليدية إنما تتحدث عن "الحكم" أو عن "السياسة"، وليس عن "الدولة" بالمفهوم النوعيّ والمعنى المتكامل؛ ذلك أن تصنيف "الدولة" في الفكر السياسي التقليدي هو تصنيف لضروب الصَّنعة السياسية، وليس لأنواع "الدولة".

إلى ذلك، إن مفهوم الدولة الإسلامية تُحيط به إشكالات عديدة، أهمها التباس العلاقة بين الدين والسياسة، وهو جوهر المعضلة. وفي هذا المعنى يأتي مقال عبد الرحمن الحاج ليقدم قراءة تاريخية للفكر الإسلامي السياسي تلحظ تحولات الوعي بمفهوم الدولة تحديداً، وتأثيرات الميراث السياسي الفقهي والتاريخي عليه، ويرى فيه أن مفهوم الدولة الإسلامية مفهوم هجين يختزن مضمونًا نضاليًّا لاستعادة الإسلام عبر استعادة الخلافة، أو لاستعادة الخلافة من أجل استعادة الإسلام، وأن ظل الخلافة لم يفارق تصورات الدولة الإسلامية، فلاهوت الخلافة الثاوي في عبارة "الدولة الإسلامية" يمثِّل القاسم المشترك لكل الحركات الإسلامية، والفارق بينها أن بعضها يُعيد مفهوم "الدولة الإسلامية" إلى أساسه (الخلافة)، مثل حزب التحرير والحركات الجهادية، فيما يفسر البعض الآخر الدولة الإسلامية بمنطق تلفيقي بالدولة المدنية. وقد عزز ظل الخلافة ومكّن للاهوتها في الوعي الإسلامي الصراع الإيديولوجي ومساعي الحفاظ على الهوية في مواجهة ما سمي بـ"التغريب" و"الغزو الفكري" و"الاستلاب" وغير ذلك، حتى كاد يصبح مفهوم "الدولة الإسلامية" مسلَّمة من مسلمات الوعي الإسلامي برمته في نهاية السبعينيات، وخصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م. لكن الحاج لا ينفي أن ثمة بوادر لإعادة التفكير في مفهوم الدولة الإسلامية خارج إطار لاهوت الخلافة، بشكل يقترب أكثر من مفهوم الدولة الحديثة خارج الأيديولوجيا.

ثمة إشكالات عديدة تحيط بمفهوم الدولة الإسلامية في أعين نقادها، كما يتضح في الفصل الثالث، فرضوان السيد يقول ناقدًا: صحيح أن الحاكم في الدولة الإسلامية غير معصوم، لكنّ غير المعصوم هذا يقوم على تطبيق الشريعة المعصومة، فما الفائدةُ من التأكيد على (مدنية) الحاكم ما دامت (مدنية) الدولة منكورةً أو غير مصونة؟! ويستدلُّ دُعاةٌ كبارٌ على ضرورة إقامة الدولة الإسلامية بأنّ الإسلامَ عقيدةٌ وشريعة، والقائلُ بذلك لا بد أن يُقرَّ أنَّ الإسلامَ دينٌ ودولة! بيد أنّ (الشريعة) لا تعني المشروعَ السياسيَّ، كما أنها في الحقيقة لا تنفصلُ عن العقيدة، بل هما شيءٌ واحدٌ، ذلك أنّ الشريعة تملكُ جوانب اعتقادية أيضاً، وكذلك أورد برهان غليون في الفصل الأول جملة إشكالات على أطروحة الدولة الإسلامية في الفصل الأول، منها أنه يرى فيها شكلاً من أشكال الدولة الدينية التي تجاوزها الجميع باتجاه الدولة الديمقراطية التي تكفل قيام الحق والقانون، وترسخ مبدأ المواطنية كأساس للتعامل بين الجميع، وإن كان العديد من المفكرين الإسلاميين ينفون هذه الصيغة عن الدولة الإسلامية، وقاموا بتوطين فكرة المواطنة داخل الفكر السياسي الإسلامي، بما يكفل مبدأي المساواة والعدل.

والواقعُ أنّ منظّري الإسلاميين بعد أن صاروا أحزاباً سياسيةً، ومارسوا المشاركة، سيطر في أوساطهم أحدُ منزعين: إمّا تصوير "الدولة الإسلامية" الموعودة بصورةٍ تقرُبُ بها من "الدولة المدنية"، أو العكس، أي تصوير الدولة المدنية باعتبارها اختراعًا من اختراعات المسلمين في العصور الوسطى، قلَّدهم فيها الغربيون المُحْدَثون.

لكن المقال الأخير في الفصل الأخير من الكتاب، يخطو خطوة متقدمة في إدراك مشكلة الدولة الإسلامية من داخل التفكير الإسلامي نفسه، إذ يوضح أن هناك تفريقًا وتمييزًا بين شمولية الإسلام ووظيفة الفقه والفقهاء، كما أن هناك تمايزًا بين الفقه والسياسة، إلا أن متغيرات الواقع السياسي أدت إلى اضطراب كبير في "الأدوار" طاول وظيفة الفتوى ومجالها وحدودها، بل وظيفة الفقه والفقيه، والذي لم يتم الانتباه إليه أن شمولية الإسلام لم تعنِ شمولية الفقيه في ذاته بحيث يصبح هو - وحده - المتحكم بالمجال العام.

لكن التطور الذي حدث في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء تصور ومرجعية الدولة الحديثة، بما هي مهيمنة على تفاصيل حياة البشر، وفي هذا السياق حدثت تحولات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام، وهي "النظام الشامل"، فتحولت من إطار دولة مجسدة لها وقائمة بها، إلى إطار جماعة أو تنظيمات إسلامية، فجرى الدمج بين الإسلام بوصفه نظامًا شاملاً، وبين ما سمي لاحقًا بـ"الإسلام السياسي" على معنى المشاركة في السلطة، أو السعي إليها.

فاشتمال الشريعة الإسلامية على مسائل السياسة أمر لا مفرّ من الإقرار به، وهو ما يشهد به ذلك النتاج الفقهي الضخم، والتاريخ الإسلامي أيضًا، بل ويشهد به التحليل المنطقي عن تعريف الفقه الإسلامي وبناء تصوراته، لكن الجديد والطارئ هو مَنْ يمارس تلك السلطة، ويقوم على تطبيق تلك التصورات. هنا حدث - ويحدث - الكثير من الاضطراب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة والصراع على السلطة والمرجعية أيضًا.

د. معتز الخطيب

الدوحة 5-1-2010

الصفحات