يأتي هذا الكتاب (مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين) الذي أعده وحرره الكاتب والباحث د.
أنت هنا
قراءة كتاب مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
3-
والحقيقة أن النموذج الحديث للدولة قد جَبَّ جميع ما قبله عمليا ونظريا أيضا. ولم يعد هناك في العالم كله من يدافع عن نظرية الدولة الامبرطورية التي تحقق غايات الارستقراطية الحاكمة وتلبي مطالبها، ولا عن الدولة الدينية التي تحتكر الهيئة الدينية - كنيسةً كانت أم جماعة منظمة - حق السيادة فيها من دون الأمة أو الشعب، ولا عن الدولة السلطنة التي يفرض فيها القادة العسكريون غالبا أنفسهم على البلدان والمجتمعات بقوة السلاح والقهر، ولا عن الدولة القبلية التي تنتظم شؤون أعضائها حسب الأعراف والتقاليد الموروثة.
عندما نتحدث عن الدولة اليوم فنحن نقصد في الواقع المجتمعات المنظمة في إطار دولة أو قوة مركزية تتحلى بحد ما من السيادة واحتكار العنف وتستند في وجودها وتجددها إلى إرادة أعضائها ومشاركتهم الفعلية، ولا تحظى بالاستقرار والسلام والديمومة إلا بفضل ما تتمتع به من شرعية قانونية وسياسية. ومن الواضح أن الدولة، من حيث هي جهاز أو مؤسسات، ليست هي العنصر المهم في الدولة الحديثة وإنما المهم هو الأمة؛ فهي لا توجد من دونها، فإذا انحلت الأمة أو تفككت زالت الدولة من حيث هي مشروع لبناء أمة أو لضمان استمرارها، أي تنظيم لفعل السياسة المكون لها، وفقدت معنى وجودها وغاياتها كدولة الأمة، وتحولت إلى دولة أمة معلقة كما تمثل ذلك الديكتاتورية، أو إلى دولة سلطانية أو عصبوية قائمة بفعل القهر والسيطرة بالقوة، أو بالتفاهم مع البيئة الجيوسياسية أو بكليهما.
بماذا تفيدنا هذه المقاربة السريعة لمفهوم الدولة؟ إنها تساعدنا على إعادة تصويب محور النقاش الدائر بيننا حول الدولة. وفي نظري لن نخرج من الطريق المسدود إلا بالانتقال من النقاش في الدولة الإسلامية أو الديمقراطية - بوصفها نماذج جاهزة تستدعي الولاء أو تأكيد الأسبقية - إلى النقاش في المجتمع السياسي الذي نريد إقامته. وعندما نتحدث عن مجتمع سياسي أو جماعة سياسية فنحن نقصد في الواقع نوعية العقد الذي ستقوم عليه الرابطة بين الأفراد والقيم التي توجههم والغايات التي تبرر اجتماعهم بل تسمح بتحقيق هذا الاجتماع واستمراره.
فالدولة الاسلامية مفهوم يمكن أن يستقيم إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها ونعتقد بصلاحها هي جماعة إسلامية يشكل الإخلاص لدينها وإيمانها ومطابقة سلوك كل فرد فيها مع المطالب الدينية غايتها الرئيسية. وفي هذه الحالة يكون السعي نحو الخلاص الأخروي هدفًا مسبقًا على غيره من الأهداف، ويصبح تأمين الدولة شروط تلبية الفرائض الدينية وتطبيق مبادئ الدين وظيفة السلطة العمومية الأساسية.
وبالمقابل يتغير الأمر إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها أو ندافع عن فكرة تكوينها، جماعة سياسية من النوع الوطني/المواطني الذي يتيح تعاضد أفراد ينتمون إلى مذاهب وأديان مختلفة، يجمع بينهم البحث المشترك عن مصالح مشتركة، كالارتقاء بشروط حياتهم العقلية والبدنية، أي بنظام مجتمعاتهم ومنظوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتقنية والعلمية، ومن وراء ذلك بشروط اندماجهم في حضارة عصرهم والمشاركة الايجابية والفعالة فيها، مع ترك شؤون العقيدة الدينية لضمير الأفراد المؤمنين، وتحويل الدين من قاعدة للعمل السياسي أو لعمل السلطة العمومية، إلى إطار للحياة الخاصة الحرة التي تنتظم شؤونها باختيار أعضائها وتفاهمهم، من دون وصاية عليهم لكنيسة أو دولة.
وفي اعتقادي يشكل الخلط التلقائي وغير الواعي غالبا - عند المفكرين الذين يطلقون على أنفسهم اسم الاسلاميين - بين مفهوم الجماعة عموما ومفهوم الجماعة السياسية السببَ الرئيسي لسوء الفهم والتفاهم مع المفكرين الذين يسمون أنفسهم حداثيين أو عصرانيين. هكذا لا يلحظ معظمهم أي تمييز بين أنماط الجماعات السياسية، تلك التي تقوم على أساس رابطة الدين وتعطي مفهوم الأخ المؤمن، وتلك التي تقوم على رابطة السياسة وتعطي مفهوم المواطنية. والحال، ليس جميع الجماعات جماعات سياسية، وليست كلها مؤهلة لتوليد جماعة سياسية، وليست الجماعات السياسية الناجمة عنها متشابهة في معناها ومضمون سياسياتها. والقصد أن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. نصاب السياسة في العصر الوسيط ليس هو في العصر الحديث. وهو ليس في العصر الوسيط بالمضمون ذاته في القطر الأثيني والقطر المصري أو العراقي. بمعنى آخر، لا تتأسس الدولة، محور السياسة وغايتها، على الأركان ذاتها في كل حقبة وكل مكان. فقد تقوم الدولة على الدين، كما يمكن أن تقوم على القومية، كما يمكن أن تقوم على القانون، وتكون دولة ديمقراطية قانونية. ونصاب السياسة، أي مشمولاتها من مجالات وطرائق ووسائل وغايات، ليست واحدة في كل الحالات. وما نسميه دولة في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية ليس له علاقة بمفهوم الدولة الحديثة، كما نعرفه في العصر الراهن، وإن كان يشكل نمطا من أنماط الكيانات السياسية.
قد تكون الرابطة الدينية أساسا لرابطة سياسية، وقد تتطابق جماعة الدين مع جماعة الدولة، أو الجماعة السياسية، لكن هذا ليس شرطا، ولا يمثل الحالة السائدة في التاريخ. وهو في العصر الحديث أكثر ندرة من أي فترة سابقة. فلا توجد اليوم جماعة دينية متطابقة تماما مع الجماعة السياسية، ولا يستثنى من ذلك الدول القائمة صراحة على الرابطة الدينية، مثل إسرائيل وباكستان. وبالعكس لا تقوم السياسة اليوم، من حيث هي تحقيق لسلطة ودولة، من خارج الرابطة السياسية. ذلك أن السلطة والدولة الحديثتين تستدعيان - كشرط لهما - تراجع أسبقية علاقات العصبية الطبيعية أو شبه الطبيعية لصالح نشوء علاقة مواطنية قائمة على وحدة القانون ومساواة المواطنين أمامه معا.
وليست العلاقة بين الجماعة السياسية والدولة واحدة في كل الأنماط السياسية. فعلاقة الدولة بالجماعة الدينية في الحقبة الاسلامية ليست من النوع ذاته الذي يحكم علاقة الدولة الحديثة بالأمة. فالدولة في النمط الأول مضافة إلى الجماعة من خارجها، أو آلة قهر خاصة تسندها شرعية دينية مستمدة من مطابقة تشريعاتها، فعليا أو شكليا، لأحكام الشريعة الدينية أو ما يُعتقد أنه كذلك. أما الدولة الحديثة، في شكلها المكتمل الديمقراطي، فهي دولة الجماعة ومنبثقة عنها. بل هي الجماعة ذاتها وقد تجسدت في شكل مؤسسي منظم. وهي تستمد شرعيتها من نفسها، أي من آلية التمثيل الديمقراطي نفسه المعبر عنه في مجلس تشريعي منتخب.