أنت هنا

قراءة كتاب حيونة الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حيونة الإنسان

حيونة الإنسان

كتاب " حيونة الإنسان " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

/1/تقديم

سأعترف، من دون أن أدّعي التواضع، بأنه تنقصني صفات عديدة يجب أن تتوفر في المرء لكي تنطبق عليه صفة الباحث.

فأنا أتعامل مع الأدب على نحو أساسي، أكتب الشعر والدراما وأعمل في الصحافة. وهذا يعني أن تناولي لأي موضوع، وحتى الموضوع الذي يشبه البحث، مثل موضوعنا هذا، إنما هو تناول بعقلية الأديب ومزاجه وأسلوبه، وليس بعقلية الباحث ومنهجيته. ومن ثم فإنني لم أكن أسعى لطرح نظرية أو تأييد أخرى. كما أنني لم أكن أسعى لنقض نظرية أو تفنيدها. ولهذا أتوقع ممن يتفهمون مزاجي هذا أن يسوغوا لي عدم الإيراد الدقيق لمرجعيات الاستشهادات التي أوردتها في هذا النص.

وربما كان هذا هو السبب الذي دفعني إلى الإكثار من الاعتماد على شهادات الأدباء ومعالجاتهم لهذه المسألة التي أنا بصددها.

والمسألة هي أنني أرى أن عالم القمع، المنظم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته. بل هو عالم يعمل على "حيونة" الإنسان (أي تحويله إلى حيوان). ومن هنا كان العنوان. ولعل الاشتقاق الأفضل للكلمة هو "تحوين الإنسان". ولكنني خشيت ألا تكون الكلمة مفهومة بسهولة.

إن تصورنا للإنسان الذي يجب أن نكونه أمر ليس مستحيل التحقق، حتى وهو صادر عن تصور أدبي أو فني. ولكن هذا التصور يجعلنا، حين نرى واقعنا الذي نعيشه، نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية. وهي خسائر متراكمة ومستمرة، طالما أن عالم القمع والإذلال والاستغلال قائم ومستمر. وستنتهي بنا إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان"، أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانًا، ومن دون أن يعني هذا، بالضرورة، تغيرًا في شكله. إن التغير الأكثر خطورة هو الذي جرى في بنيته الداخلية العقلية والنفسية.

وإذا كان الفلاسفة والمتصوفون والفنانون والمصلحون والأنبياء يسعون، كل على طريقته، إلى السمو بالإنسان نحو أن يعود جديرًا بالجنة التي فقدها أو الكمال الذي خسره أو اليوتوبيا (أو المدينة الفاضلة) التي يرسمونها، أو يتخيلونها، له؛ فإنني أحاول أن أعرض هنا أي عملية انحطاط وتقزيم وتشويه تعرض لها هذا الإنسان.

ولقد سبق لي في كلمة الغلاف للكتاب النثري الذي أصدرته في طبعة سورية قبل أكثر من عشرين عامًا بعنوان ‹دفاعًا عن الجنون› أن كتبت العبارات التالية: "كان لدى الإنسان حلم جميل حول نفسه. وكان يصبو إلى السمو على شرطه الإنساني. ولكن تتالي الأحوال فتح في هذا الحلم جرحًا. وبدأ الحلم ينزف ويضمحل. وراح يتخذ، مع ضموره، أشكالاً وتسميات.

وبين حين وآخر ينتبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة، هذه، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان. وحين يقاوم تتخذ مقاومته نوعًا من أنواع الجنون.... ".

وهنا أود أن أستشهد بعبارة من كتاب ‹تأصيلاً لكيان› لمحمود المسعدي: «يتردد الإنسان متأرجحًا بين منازل مختلفة. فمن الناس من لا يختلف كثيرًا عن الحيوان، ومنهم من يبقى طوال حياته يتخبط في البهيمية إحساسًا وشعورًا وتصورًا وحياة ومسؤولية. ومنهم من يرتفع عن ذلك درجة أو درجات. ومنهم من قد يصل في الارتفاع إلى أن يشرف على أفق عالم الملائكة أو عالم الآلهة».

وكان الأمر قد بدأ مع ترجمتي كتاب ‹التعذيب عبر العصور› لبرنهاردت ج. هروود، والذي صدر عن دار الحوار في اللاذقية عام (1984 م)، ثم صدر عن دار الجندي، بعنوان ›تاريخ التعذيب›. وكان المفروض أن يصدر أولاً عن دار أخرى. وقد اقترح عليّ القيّمون على تلك الدار أن أكتب مقدمة للكتاب. وبعد أن بدأت بكتابة المقدمة، واستنفار أفكاري وذاكرتي حول الموضوع، حدث خلاف جعلني أحول الكتاب إلى الصديق نبيل سليمان الذي قام بنشره في دار الحوار. ولكن ظلت لدي أفكاري المستفزة حول الموضوع، ولم أرض أن أتخلى عنها.

وإذا كنت أريد أن أحقق فائدة ما من العودة إلى إثارة هذا الموضوع فلا أقل من أن أطمح إلى أن أثير في نفس القارئ شيئًا من الأسف والحرقة على حلمه المفقود (وهل أتجرأ على الطموح إلى إثارة الغضب؟). ويبدو أن ما أسعى للوصول إليه مع القارئ هو، مرة أخرى مسعى أدبي انفعالي. وقد يكون أقل بكثير مما هو الهدف من مسعى الباحث المتمكن المتمرس.

ولعل أول ما أتمنى أن أثيره، إضافة إلى الأسف، هو التخلص من تعوّدنا على وحشية العالم. فلقد سبق لي أن أشرت إلى فكرة حول التعود لا أعرف أين قرأتها، وقد أوردتها في روايتي ‹أعدائي› على النحو التالي: «نتعود؟ تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟. ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئًا عن التعود. حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس. ومن ثم لم تعد تنبه الجملة العصبية. والأمر ذاته في السمع، حين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك. لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم. السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات فينا شيء».

ولكي تعرف المعنى الحقيقي للتعود اقرأ معي هذا المقطع من رواية ‹من وراء القضبان› لكارل تشيسمان:

«واكتشف هو وزملاؤه في هذا القطاع آلاف الجثث اليابانية التي كانت ممزقة ومتحللة. وكان النتن الهائل المتصاعد منها يمنع هؤلاء الرجال من الراحة والنوم والأكل. بعد ذلك ألف الرجال ذلك، وصاروا يستخدمون رؤوس اليابانيين بعد معالجتها، بحيث يكشفون الجمجمة الملساء الملتمعة، يستخدمونها زينة لمكاتبهم».

أتريد تعودًا آخر؟.

في التفاصيل التي نشرت عن الرياضيين الذين تحطمت طائرتهم في جبال الأنديز شيء آخر، فبعد أن انتهى كل ما لدى الناجين من طعام وهم محاصرون في تلك الجبال الجليدية تحت العواصف الثلجية، نصحهم أحد زملائهم، وهو طالب طب، أن عليهم أن يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد ومن البقاء على قيد الحياة. وليس هناك أي مصدر لهذا البروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قتلوا في الحادث، كما أن عليهم الإسراع بنبش الجثث لأن تراكم الثلوج وضعفهم المتزايد سيزيدان في صعوبة الوصول إلى هذه الجثث.

وبعد حين ينجح اثنان منهم في جلب نجدة في طائرة هيلوكوبتر، ويقول الطيار (في كتاب ‹أحياء› الذي يروي القصة)، إنه حين أطل على مكان وجود الأحياء الناجين رأى أمامه عظامًا آدمية متناثرة على مدى النظر. «وكأن قطيعًا من الوحوش المفترسة قد داهم تجمعًا بشريًا».

حين استغرب الطيار استغربوا من استغرابه، فقد أكلوا كل جثة استطاعوا إخراجها من الثلوج. وبين الجثث أهلهم وأولادهم وزوجاتهم.

لقد استغربوا من استغرابه لأنه لم يتعود، بينما هم تعودوا على الأمر وتآلفوا معه.

هل تعودنا نحن على أمور غير مقبولة؟.

إن الشخصية في رواية ‹أعدائي› تنهي كلامها بالعبارة التالية: «تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا».

أعني: إذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بإنسانيتنا حتى صرنا نتعود الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا؟! وحتى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الإنساني الذي نُعامل نحن به أو يُعامل

به غيرنا على مرأى منا في الحياة أو حين نقرأ عنه أو نراه على شاشات التلفزيون. (وسنتجاهل أننا نحن نعامل غيرنا أحيانًا بهذه الطريقة: أولادنا أو مرؤوسينا أو الذين يقعون بين أيدينا من أعدائنا مثلاً، أو السجناء الذين بين أيدينا، مفترضًا أن بعض من يقومون بهذه المهمات يمكن أن يقرؤوا ما أكتب).

وينعكس تعودنا على هذا الإذلال في أننا صرنا نعد أن تعذيب السجين أمر مفروغ منه. لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب في السجين الضحية، حتى بعد خروجه من السجن، كما إننا لم نعد نتساءل عن أثر التعذيب في منفذه. وهل يستطيع بسهولة أن يعود إلى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب، كما لو أنه خرج من المرحاض لكي يستأنف حياته.

وهذه هي أول مرة أجمع بها أفكاري حول هذا الموضوع بعد محاولات عديدة ومقالات مبعثرة في أكثر من مكان.

الصفحات